سيرغي لوزنيتسا (2/2): القرار المحتاج لقوّة لتنفيذه غير صالح للشعوب

سيرغي لوزنيتسا (2/2): القرار المحتاج لقوّة لتنفيذه غير صالح للشعوب

09 سبتمبر 2020
سيرغي لوزنيتسا: الرياضيات تُعلّمك ألّا تُشتّت انتباهك (Getty)
+ الخط -

هناك فكرة مفادها أنّ طبيعة السلطة هي نفسها، فقط يختلف الزمن والظروف. لذا، إنّ طريقة تصرّف السلطة الروسية اليوم مثلاً تجد جذورها في الماضي، خاصّة في الطقوس السوفييتية.

هذا الفيلم ("جنازة رسمية"، المحرّر) أيضاً بمثابة مؤلَّف يمكن أن يدرسَ الطلبةُ بفضله معنى السلطة. الأمر مختلف في الوقت الحاضر، لأننا نعيش في مرحلة صناعية وتقنية مختلفة. لكنْ، هناك الفكرة نفسها والرموز نفسها وتسلسلها، خصوصاً الطقوس التي تحيط بهذا الموضوع. أهم شيء هو أن تسأل نفسك: من يتّخذ القرار؟ أهو هذا الشخص، أم مجموعة أشخاص يتّخذون القرارات، ولديهم سلطة كافية لتنفيذها؟ أي ما إذا كانت لديهم سلطة كافية لتحويل تلك القرارات من أفكارٍ إلى أفعال، وفي الوقت نفسه ما إذا كانوا قادرين على الاحتفاظ بالسلطة بعد ذلك أو لا. هذا مهمّ، لأنّ القرارات كلّها، المحتاجة إلى قوّة نفوذ لتنفيذها، لا تكون في مصلحة الشعوب أبداً.

 

هذا يذكّرني بحالة بلدان عدّة شهدت الربيع العربي. فالمجموعات التي حاولت تغيير الأنظمة بعد ذلك لم يكن لديها، أحياناً كثيرة، السلطة اللازمة لتنفيذ قراراتها. والنتيجة هي أنّها فقدت الحكم لمصلحة القوى القديمة.

هذا صحيح. السلطة أهمّ شيء. على الأشخاص الذين يفكّرون في الثورة أنْ يُفكّروا أولاً في كيفية استخدام السلطة. لسنا في عالم مثالي، ينتصر فيه شعار "حرية، عدالة، أخوّة" و"كلّنا متساوون". نحن لسنا متساوين. نحن بحاجة إلى فهم كيفية تحرّك القوى، وكيفية توزيعها واستخدامها عند الحصول عليها. الأفلام التي صنعتُها حول هذا الموضوع، "ميدان" و"الحدث" (يدور حول محاولة الانقلاب ـ المحرّر)، وثالث عن المحاكمة الظالمة بتهمة التآمر، التي لفّقها النظام الستاليني ضد أبرياء ("المحاكمة" ـ المحرّر)، وهذا الفيلم عن جنازة ستالين، هي رباعية عن السلطة. أودّ الاستمرار في ذلك لإظهار جوهر هذا الشيء المثير للاهتمام للغاية، المتمثّل بالسلطة.

 

 

قرأتُ في اقتباسٍ من حديثٍ لك عن مفهوم التراكب الفيزيائي، وكيف ربطته بشكل رائع بمفهوم المسافة بين الفنان وعمله. ما مدى تأثّر أسلوب اشتغالك بفلسفة ميكانيكا الكمّ الفيزيائية؟

ما أحاول فعله، عندما أصنع فيلماً، يكمن في أنْ أتموضع في الحدود بين الحلول المختلفة، لأحتفظ بردود فعل مختلفة في الفيلم، بحيث يعتمد تبنّي رد فعل أو حل معيّن على من يُشاهده. هذا يشبه نظرية الريبة، التي صاغها هايزنبرغ. عندما تلقي نظرة على الجسيم، يعتمد كونه موجباً أو سالباً على موقعك، وكلّ دقّة تتحرّاها في مُتغيّرٍ معيّنٍ تلقي بشيء من اللّبس في مُتغيّر آخر. ما إن تكسب شيئاً في يدٍ، حتّى تفقد شيئاً في الأخرى. لذلك، حتّى لو كانت لديّ وجهة نظر بشأن ما أصوّره لا أقدّمها، بل أستخدمها فقط لإغناء رؤيتي وحثّ الناس على التفكير بشكل مختلف.

هكذا، عندما يرى المشاهدون أفلامي، يقول أحدهم: "مُدهش، لم أفكر في الأمر بهذه الطريقة"، فيردّ آخر:" لا، ليس الأمر كما ظننتَه. أرى أنّ العكس هو الصحيح في الواقع ". يحدث نقاشٌ بين مُشاهدي الفيلم، لكنّه غير مُجدٍ في الحقيقة (يضحك)، لأن أموراً كثيرة تتحدّد وفق ما يدور في أذهانهم، وكيف يتردّد صدى الفيلم داخلها. يعتمد الأمر أيضاً على السياق الثقافي والمستوى الدراسي، وما إذا كان لدى الشخص استعداد للتفكير وتغيير قناعاته، وما إلى ذلك. طبعاً، هناك أشياء أخرى نتفاعل معها بشكل مختلف، كالعلم والتاريخ.

 

هل تقصد ما ينتمي إلى جنس الحقائق؟

نعم. الأشياء توجد على شكل حقائق ما دمت لا يمكنك عكسها. يمكن بسهولة التراجع عن الأحكام حول الأشخاص مثلاً. أنْ تقول اليوم إنّ شخصاً ما جيّد، ثمّ تصرّح في اليوم التالي بأنّه سيّئ، رغم أنّ شيئاً لم يحدث في الفترة الفاصلة. يمكنني القيام بهذا، ويمكن الجميع القيام به. لكنْ، هناك أشياء تحدث ولا أحد يستطيع عكسها. إنّها الحقائق: شخصٌ ما وُلد، أو آخر مات. لا يمكنك فعل أي شيء حيال ذلك، حتى إشعار آخر على الأقل (يضحك). لأننا لا نعرف أبداً ما سيأتي به الغد.

 

كيف أصبحت مهتماً بالسياسة؟ هل قرأتَ كثيراً عن هذا الموضوع؟

لا. يُمكنك طبعاً النظر إلى أفلامي كأفلام سياسية، لكنّها قبل ذلك أفلام فنية. يحدث أنّ الأشياء التي تهمّني هي الأشياء التي ترتبط بحياتنا الواقعية واليومية، وبالتالي بحياتنا السياسية. عندما غيّرت مهنتي ودخلت السينما، كان هدفي أنْ أقول أشياء لم يكن مسموحاً بقولها في عهد الاتحاد السوفييتي. كنتُ أبحث أيضاً عن وسيلة لتطوير نفسي، وإيجاد طريقة للاشتغال على أشكال فنية مختلفة: الصورة والصوت والمسرح والتاريخ. وجدتُ أنّ السينما وحدها تسمح بذلك. لم أكن أعرف ما إذا كانت لديّ موهبة، حتى اللحظة التي صنعت فيها فيلمي الثالث ("محطّة القطار"، 2000 ـ المحرّر). بعد مرور 10 أعوام على دخولي مدرسة السينما، قلتُ لنفسي: "حسناً، هذا هو دربي". كنتُ خجولاً جداً، إلى درجة أنّي لم أكن أستطيع سؤال المارّة عن الساعة.

 

هذا حال أشخاصٍ كثيرين مُثيرين للاهتمام، ويكونون انطوائيين.

كنتُ انطوائياً، بل مصاباً بشيء من التوحّد، نوعاً ما. كان يصعب عليّ إلقاء تحية على أشخاصٍ لا أعرفهم مثلاً. هذا كلّه نشأ من طبيعة عائلتي، والسياق الذي ترعرعت فيه.

 

أتصوّر أنّ ولعك بالرياضيات ساهم في خلق نوع من الانكباب على دواخلك.

معك حقّ. الرياضيات تُعلّمك ألاّ تُشتّت انتباهك بالتركيز على العالم الخارجي. إذا كنتَ تريد فهم شيء ما، فعليك قطع الصلة مع بقية العالم، وتركّز على مسألتك أطول وقتٍ ممكن. اليوم، نحن منظّمون بطريقة يودّ الجميع فيها لفت انتباهك، حتّى صار تركيز الإنسان بضاعة تُباع وتُشترى في بورصة الإشهار، وغيرها.

عام 1991، حاولتُ الانتساب إلى مدرسة السينما رسمياً، للمرة الثانية. كان ينبغي اجتياز امتحانٍ يتمثّل في كتابة سيناريو فيلم قصير في 3 ساعات. لم أكن جيداً في ذلك، فرسبت مرّة أخرى. رغم ذلك، التحقت بالدراسة بشكل غير رسمي. بعد عامٍ، لم يجدوا بُداً من قبولي كطالبٍ رسمي.

 

الأرشيف
التحديثات الحية

 

أنتَ معروفٌ أيضاً باختياراتك الشكلية المتطرّفة، على غرار الابتعاد عن تركيز العدسة، الذي أفضى إلى لقطاتٍ ضبابية رائعة في "رسالة"، وكيف تقول كلّ شيء عن هشاشة المضطربين نفسياً وهالة البراءة التي تلفّهم. كيف تأتي مثل هذه القرارات؟ هل تفكّر بها مسبقاً، أم أنها تفرض نفسها في أثناء التصوير؟

قبل "رسالة"، صوّرتُ "محطة القطار" بعدسة خاصة، تخرج عن بؤرة التركيز. عندما اكتشفت ذلك المكان في الغابة، حيث توجد مصحّة عقلية يعيش فيها هؤلاء الأشخاص ويشتغلون بالفلاحة، بدأتُ تصوير "رسالة" بالطريقة نفسها، بفضل العدسة نفسها. بعد ذلك، أدركتُ أنّ لديّ مادة فيلمية وإمكانية لصنع فيلم روائي طويل، إذا استخدمتُ عدسات عادية، فأنجزتُ فيلمين في المكان نفسه: "رسالة"، الفيلم القصير الذي تحدّثت عنه، وفيلماً طويلاً بعنوان "المستعمرة"، بعدسات عادية، وقصص أكثر تفصيلاً حول نزلاء المصحّة. خرج "المستعمرة" عام 2001، ولم يرَ "رسالة" النور إلّا عام 2011. انتظرتُ 10 أعوام لأنّه لم يكن لدي ما يكفي من المال لإنهاء الفيلم القصير، ولأنّي كنت مشغولاً بتوليفِ أفلامٍ أخرى. سأحاول ما استطعت لإتاحة فرصة مُشاهدة "المستعمرة" عبر "إنترنت". إنّه فيلم بـ80 دقيقة، من دون أيّ كلمة. هناك فقط مراقبة أشخاصٍ وتسجيل حركاتهم.

خطرت فكرة "رسالة" بعد مُشاهدتي "سان كليمنتي" لريمون دوباردون، وكيف يُمكن إظهار هؤلاء الناس ليس بشكل مباشر كـ"مجانين"، بل بالنظر إليهم كفلاحين عاديين تقريباً، برفقة الأبقار في البيدر، ثم الاقتراب أكثر فأكثر حتى إدراك حالتهم الصحية والنفسية. عندئذٍ، لا نرفضهم لأنّه بات لدينا نوع من المسافة إزاء ما شاهدناه.

 

مثيرٌ للاهتمام أيضاً مقارنة هذا مع نظرة مخرج من الغرب كفريدريك وايزمان للموضوع نفسه، في "تيتكات فوليز"، وكيف تؤثّر الثقافة في الطريقة التي ننظر بها إلى العالم.

وايزمان مخرج عظيم، ولا يزال يصنع أفلاماً رائعة في الوقت الحاضر. سيُنظّم عرضاً استعادياً في "مركز بومبيدو" الباريسي، العام المقبل، تُعرض فيه أفلامي كلّها. طلبوا منّي اختيار أفلامٍ لمخرجين مختلفين، تعبّر عن ذوقي، فاخترت "سان كليمنتي" و"كريزي هورس" لوايزمان.

 

اقترحْتَ فيلمين فقط؟

لا، هناك أفلام أخرى كـ"سقوط سلالة رومانوف" لإسفير شوب. هذا فيلم وثائقي جيّد جداً، يعود إلى عام 1927. و"إضراب" لسيرغي آيزنشتاين، و"الرجل ذو الكاميرا" لدزيغا فيرتوف، المنتمي إلى منطقة أوكرانيا نفسها حيث تكمن جذوري.

المساهمون