سيرة الأقدام من الحَفاء إلى الذهب

سيرة الأقدام من الحَفاء إلى الذهب

12 يونيو 2014
+ الخط -

يذهب الكاتب الأوروغواياني إدواردو غاليانو، في كتابه "كرة القدم في الشّمس والظل" (ترجمة صالح علماني)، إلى اعتبار اللعبة الأكثر شعبية في العالم مثالاً حيّاً على استغلال الرأسمالية للعالم، وإخضاعها كل ما له صلة بالتراث الإنساني المشترك لقوانين الربح والخسارة.

مع غاليانو لا تعود الإدانة مقتصرةً على الطريقة التي جرى من خلالها تحويل اللعبة إلى مؤسسة ربحية، بل تصبح استقصاء للطريقة نفسها التي ظهرت فيها الرأسمالية، وللطرق التي اتبعتها من أجل ابتلاع العالم. وما كرة القدم إلا واحدة من نماذج كثيرة.

بمقدار ما في الكتاب من كشفٍ عن أعمق اللحظات في تاريخ كرة القدم، بمقدار ما فيه من تبئير للحظة خروج اللعبة من فضائها الشعبي الحيوي، وانتقالها إلى مجال الاستثمار، بل إلى أحد أشكال السيطرة الصامتة.

ماتت اللعبة منذ أصبحت حلماً جمعياً للفقراء في تغيير واقعهم، من خلال إيهامهم بالنجومية والثراء كحال ميسي ورونالدو ومارادونا، حيث باتوا يأملون بتوقيع عقود بملايين الدولارات مقابل الاستمتاع فقط. تلك هي المأساة التي صنعتها كرة القدم الجديدة. فلم نعد سوى قطيع يتغذّى على عشب الأحلام الذي تعلفنا بها الصورة الفاخرة لحياة من الدرجة الأولى، صحبة نساء فاتنات إلى درجة أنك لا تجد تعريفاً للفتنة بعدهنّ، وسكنى بيوت تتفوّق على قصور الحكايات، وحضور يوميّ في حياة مليارات البشر.

"كرة القدم في الشمس والظل" لم يكتف بالإدانة وحدها، بل سرد لنا تاريخ اللعبة بكل الجمال الذي بدأت به، على خلفية تاريخ العالم، وصولاً لعرضه التشوهات التي طالتها، منذ كانت الكرة تصنع من القماش، ومنذ كانت الفرق تتشكّل في الأحياء الفقيرة المصنوعة من الزينكو والقش، من تلك البيوت التي تفتقر لكل مقومات الحياة، حيث لا ماء ولا كهرباء، حيث الأقدام الحافية والمعدات الخاوية، وفي الوقت نفسه حيث الإبداع الذي يرغم البؤس على التحوّل إلى إمكانية حياة، ولنا العِبْرة في سير بيليه ومارادونا.

لاحقاً صارت كرة القدم نظاماً مرعباً يقوم على تكنوقراطية تقسّم اللعبة، كما العالم، إلى طبقات. وصار البسيط شديد التعقيد، ليس المهم أن يلعب اللاعب بمهارة، المهم أن يكمل تحوّله من إنسان إلى آلة.

يكتب غاليانو عن هافـيلانج أوّل من شوّه كرة القدم بعد تسلّمه رئاسة "الفيفا" في 1974، حيث أعلن بعد رحلة "تسلّق" طويل: "لقد جئت لأبيع سلعة اسمها كرة القدم". كما يفتح أرشيفه مستعيداً حواراً محورياً: "لقد سأله صحفـي إنكليزي من صحيفة التايمز اللندنية: ـ ما هو أكثر ما يروقك فـي كرة القدم؟ أهو المجد؟ أم الجمال؟ أم الفوز؟ أم الشعر؟ فأجابه: الانضباط".

كتب غاليانو السيرة الضائعة لكرة القدم، وحين تحدّث عن تطوراتها في القرن الماضي أرانا أنها تطورت بالاستجابة لاقتصاديات السوق وفق منظور العالم الأحادي الجديد، لا وفق مقتضيات الإبداع الإنساني نفسه.

وما جرى فيها لا يختلف عما جرى لسواها، فكله يصب في مصب واحد يقوم على تخلي كل "موجود" عن خصوصياته، خلال عملية إلحاقه بالمنظومة الاقتصادية الطاحنة، وهي تمشي في اتجاه واحد، يضع الخصوصيات أسفل القائمة، تماماً مثلما يضع الإنسان، من أجل الهدف الكبير: الربح.

توقّف كتاب "كرة القدم في الشمس والظل" عملياً عند "مونديال 1994"، فما الذي تغيّر في البطولات الكروية اللاحقة؟ لا شيء، فقط ازدادت الشراهة شراهة، واكتملت عبودية الصورة.



____________________________

من "كرة القدم في الشمس والظل" لإدواردو غاليانو 


هــدف مـارادونـا
حدث ذلك فـي عام 1973. فـي أثناء اختبار لفريقي الأطفال فـي ناديي أرجنتينوس جينيور وريفر بلات فـي بوينس آيرس.

تلقى الرقم 10 فـي أرجنتينوس الكرة من حارس مرماه، فراوغ هجوم وسط ريفر بلات وانطلق يعدو. خرج عدد من اللاعبين لمواجهته: فمرر الكرة من وراء أحدهم، ومن بين ساقي آخر، وخدع ثالث بضرب الكرة بكعبه. وبعد ذلك، ودون أن يتوقف، شل لاعبي الدفاع وترك حارس المرمى مطروحاً على الأرض ودخل ماشياً مع الكرة إلى مرمى الخصم. لقد خلّف وراءه فـي الملعب سبعة أطفال مقليين، وأربعة لا يستطيعون إطباق أفواههم.

فريق الصغار ذاك، الأبصال الصغيرة، كان قد لعب مئة مباراة دون أن يخسر أي واحدة منها وكان يلفت أنظار الصحفـيين. وقد صرح أحد لاعبي الفريق، ويدعى السّمّ، وعمره ثلاث عشرة سنة:
ـ نحن نلعب من أجل المتعة. لن نلعب من أجل المال مطلقاً. فعندما يدخل المال فـي الموضوع، يقتتل الجميع من أجل أن يصبحوا نجوماً، وعندئذ يأتي الحسد والأنانية.

تكلم وهو يعانق اللاعب المحبوب من الجميع، وهو أشدهم مرحاً وأقصرهم قامة: إنه دييغو آرماندو مارادونا. وكان عمره اثنتي عشرة سنة، وهو الذي أدخل ذلك الهدف غير المعقول.

كان من عادة مارادونا إخراج لسانه حين يكون فـي أوج الإرسال. لقد سجل كل أهدافه ولسانه خارج فمه. وكان ينام فـي الليل وهو يحتضن الكرة وفـي النهار يصنع العجائب بها. وكان يعيش فـي بيت فقير، فـي حي فقير، ويرغب فـي أن يصبح فنياً صناعياً.


الاحــتراف

حتى وهي تعاني من أزمة، مازالت كرة القدم تعتبر واحدة من أهم عشر صناعات فـي إيطاليا. والفضائح القضائية الأخيرة (الأيدي النظيفة، الأقدام النظيفة) وضعت مسؤولي أقوى الأندية فـي مأزق، ولكن كرة القدم الإيطالية ما زالت تشكل مغنطيساً يجتذب اللاعبين الأمريكيين الجنوبيين.

لقد كانت قبلتهم فـي أزمنة موسوليني النائية. ولم يكن هناك فـي العالم من يدفع مثلما يدفع الإيطاليون. فكان اللاعبون يهددون:"سأذهب إلى إيطاليا"، وكانت هذه العبارة السحرية تجبر الأندية على فك عقدة كيسها. وقد كان البعض يذهبون فعلاً: فكانت السفن تحمل لاعبين من بوينس آيرس ومونتيفـيديو وساو باولو وريو دي جانيرو؛ وإذا لم يكن لهم آباء أو أجداد إيطاليون، يجدون فـي روما من يلفّق لهم ذلك على الفور وعلى المقاس، من أجل توثيق منحهم الجنسية.

هجرة اللاعبين تلك كانت أحد أسباب ولادة كرة القدم الاحترافـية فـي بلداننا. ففـي عام 1931 تحولت كرة القدم الأرجنتينية إلى الاحتراف، ثم فـي الأرغواي فـي السنة التالية. وبدأ نظام الاحتراف فـي البرازيل فـي عام 1934. وعندئذ صار دفع الأموال شرعياً بعد أن كان يجري سراً ومن تحت الطاولة، وتحول اللاعب إلى عامل مأجور. فالعقد يقيده إلى النادي لساعات عمل كاملة وعلى مدى الحياة، ولا يمكنه أن يبدّل مكان عمله ما لم يوافق ناديه على بيعه. كان اللاعب يقدم طاقته مقابل الأجر، مثله مثل العامل الصناعي، ويبقى أسيراً مثل الفلاح القن. ومع ذلك، فقد كانت كرة القدم الاحترافـية فـي ذلك الزمان أقل تطلباً بكثير مما هي عليه الآن. فقد كانت هناك ساعتان من التدريب الإجباري أسبوعياً فقط. وفـي الأرجنتين، كان كل من يتخلف عن التمرين دون تبرير طبي يُغرّم بدفع خمسة بيزوات.


هــافـيـلانـج

فـي عام 1974، وبعد تسلق طويل، احتل جان ماريه فاوستين دي غوديفرويد هافـيلانج قمة الفـيفا. وأعلن:
ـ لقد جئت لأبيع سلعة اسمها كرة القدم.

منذ ذلك الحين يمارس هافـيلانج السلطة المطلقة على كرة القدم العالمية. بجسده الملتصق بالعرش، ومحاطاً ببطانة من التكنوقراطيين النهمين، يحكم هافـيلانج من قصره فـي زيوريخ. إنه يحكم بلداناً أكثر من الأمم المتحدة، ويسافر أكثر من البابا ولديه من الأوسمة أكثر مما لدى أي بطل حربي.

ولد هافـيلانج فـي البرازيل، وهو يملك هناك شركة كوميتا، أهم شركة نقل فـي البلاد، وأعمالاَ تجارية أخرى فـي المضاربات المالية وبيع الأسلحة والتأمين على الحياة. ولكن آراءه قليلة البرازيلية. لقد سأله صحفـي إنكليزي من صحيفة التايمز اللندنية:

ـ ما هو أكثر ما يروقك فـي كرة القدم؟ أهو المجد؟ أم الجمال؟ أم الفوز؟ أم الشعر؟
فأجابه:
ـ الانضباط.

هذا الملك العجوز بدّل جغرافـية كرة القدم وحوّلها إلى أكثر التجارات العالمية ازدهاراً. فتحت رئاسته تضاعف عدد البلدان المشاركة فـي بطولات العالم: كان العدد ستة عشر بلداً فـي عام 1974، وسيصبح اثنين وثلاثين فـي عام 1998. ومن خلال ما يمكن استشفافه من ضباب الميزانيات، فإن الأرباح التي تدرها هذه البطولات قد تضاعفت بصورة عجيبة تضاهي أعجوبة تكثير ذلك الخبز والسمك الإنجيلي، بل إن المقارنة تبدو مضحكة.

المشاركون الجدد فـي كرة القدم العالمية من بلدان أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا يقدمون قاعدة دعم واسعة لهافـيلانج، ولكن سلطته تتغذى بصورة خاصة، من المشاركة مع بعض الشركات العملاقة، مثل كوكا كولا وآديداس. وقد كان هافـيلانج هو الذي تمكن من جعل شركة آديداس تمول ترشيح صديقه خوان أنطونيو سامارانش لرئاسة اللجنة الأولمبية الدولية. وسامارانش الذي عرف كيف يكون رجل القميص الأزرق والراحة المرفوعة خلال دكتاتورية فرانكو، صار منذ عام 1980 ملكاً آخر من ملوك الرياضة العالمية. وكلاهما يتحكمان بمبالغ هائلة من الأموال. كم هي؟ لا أحد يعرف. وهما خجولان جداً فـي هذا الشأن.

(ترجمة صالح علماني)

دلالات

المساهمون