سورية سورية، أي طريق إلى الحياة، إلى الانتحار والموت؟

سورية سورية، أي طريق إلى الحياة، إلى الانتحار والموت؟

08 فبراير 2016
لوحة للفنان الألماني أوغست ماكه (Getty)
+ الخط -
في غمار هذه الحياة ومساراتها المتشعبّة مأساةً ودروباً، إمّا أن يتحوّل الفرد إلى متصوّف يلبس مسوح النسّاك والزهّاد قاذفاً كل شيء وراء ظهره في أقصى ركن بالغابات النائية أو الكهوف الجبلية، وإمّا أن يتحوّل إلى قاتل محترف، من غير أقنعة ومراوغات، قاتل في سطوع شمس الحدث الدموي الذي تقترحه يداه ببرودة أعصاب وضمير ثلجي.

مأزق الذوات الحدية الجامحة، واحد. واحتقارها لنفاق العالم وانحطاطه وأكاذبيه، واحد. والاثنان يفضيان بالضرورة إلى العزلة والنأي في الذات والطبيعة.
في فيلم "البحث عن قاتل" يتوحّد مارلون براندو مع الطبيعة، الطيور في السماء الغائمة، والأشجار على الأرض الغنية بحيوات الطبيعة الخالقة والمقفرة من البشر.

ووسط مجرة عُمان الجبلية المفعَمة بالأشباح والوساوس، كنا ونحن أطفالًا، نسمع حكايات سالم بن سهيل الرحبي وعلي بن حمد ولد جريّدة "التوبي". الأوّل كان منعزلًا في شعاب الجبال وجروفها لا ينزل البلدات والقرى، إلا لإنجاز مهامه الدموية، خانقًا كل حنين إلى الاستقرار والعشيرة. والثاني يعيش مع أمّه "جريّدة" على السفوح الوعرة للجبل الأخضر.

وكانت جريّدة أمّه بمثل شجاعته وإقدامه في خوض غمار المواجهات والقتال. وعلى الأرجح كانت ملهمته الأولى في لعب البنادق والأسنة.
عامر بن الطفيل، أحد عظماء فرسان الجاهلية الذين لا يُشق لهم غبار كان يُلقب بـ ملاعب الأسنة.

اقرأ أيضًا: سيف الرحبي، التبشير بأي شيء مستقبلي أصبح ضرب من السذاجة

                                         ***

أليس من طريق آخر غير طريق القاتل والمتصوف؟. أليست المعرفة بشتى إشراقاتها المنقذة، ولو مؤقتًا، مع محاولة التأقلم مع قيم "القطيع"، والقطيع لا يُقصد به في هذا السياق، الناس البسطاء. التأقلم، تحت دعاوى تبشيرية على نحو من السذاجة كالرسالة والتأثير الإيجابي، طريق آخر؟
لكنه على ما أزعم، أكثر فتكًا وفداحة على الأرواح النقية والمسكونة بهاجس العدالة والجمال والحلم.

هكذا انتحر ماياكوفيسكي وميشيما وتيسير سبول ولؤي كيالي. وقائمة المنتحرين لا تنتهي عند حد، سواء أولئك الذين أقدموا على الفعل مباشرة، دفعة واحدة، أم أولئك المنتحرين بأقساط الحياة اليومية وفداحة الزمن والصيرورة.

وهو انتحار يبدو أكثر كلفة ومأساوية، كالسجين الذي يتلقى جرعات الموت من حفنة جلاديه. وكلما عاش أكثر، أوغلوا في متعة التعذيب والتدمير.
علينا أن نحدّق في هذا المستنقع المليء بالجثث والأشباح والدجل حتى النهاية.

                                      ***
"هل تتمنى الموت
لا نستحق أن نطلب رفاهية كهذه؟".

في فيلم "الطريق" الذي شاهدته منذ يومين عن طريق المصادفة، وأخرجه "جون هيلكوت" عن الرواية الكارثية، "لكورماك مكارثي". وكانت الأستاذة مها لطفي قد ترجمت سيناريو عن الرواية نفسها "الطريق" وقد أبدعه "جوبنهول".

هذه الرواية، السيناريو، الفيلم، ربما تختزل أجواؤها المظلمة، وضعًا عربيًا، طليعته الأكثر وحشية؛ سورية وشعبها. بعد أن تكاثر المجرمون والقتلة محليًا ودوليًا لافتراس الجسد الذي لم يعد فيه مكان لطعنة أو جرح "تكسرت النصال على النصال" حسب أبي الطيب.

لكن يتبدى من خلال تعاظم هذا الخراب، أن الوصول إلى جوهر هذه البلاد وروحها العصية على التدمير، صعبٌ مهما توافد المجرمون ورعاة الانحطاط والمافيات، من بطون التاريخ والخرافات السوداء كما من الراهن والحديث.

                                       ***

في فيلم الطريق، يحدق "بطل" الفيلم وسط ذلك المحيط القاتم للفراغ الذي يخلّفه بركان الخراب الإنساني العمراني، وسط انعدام أي ضوء لحياة ممكنة خارج القتل والإبادة وآكلي لحوم البشر. يمضي هذا الرجل المنكوب مع طفله بين المجازر وأرخبيلات الدم والأشلاء والجيف والجوارح. حاول أن يقنع نفسه بجدوى استمراره في غلظة هذا الظلام القاسي، فلا يجد إلا طفله مبرِرًا وحافزًا على هذا الاستمرار الكئيب.

اقرأ أيضًا: نمر الغابة يلعب في عينيك

لكن السورّي الذي فقد آخر طفل له، والعربي الذي فقد الحلم والأمل، بأي مبرر يقنع نفسه المحاطة بكل أنواع القتل والطاعون؟ وبأي صحراء حمراء، وفق مسمى أحد أفلام الإيطالي أنطونيوني؟ أي صحراء مليئة بهوام الانتقام، أمامه تُسمى المستقبل، ستتحول بمعجزة إلى نبع ماء صافٍ وإشراق؟!

                                       ***

"هل شبّت حربٌ أخرى
هل خسروا حرباً أخرى
سأل البدو الأيام
لا أحد يدري، لا أحد يدري؟"**


                                        ***


يسير كلاهما في طريق يخترق "رماد العالم المنقضي" . وبصورة مذهلة يغادر مكارثي عمله السابق "ليس وطناً للشيخوخة 2003" ، ينتقل إلى تصوير سيناريو ما بعد القيامة. البيوت قد هُدمت، النباتات والحيوانات ماتت، بقي عدد ضئيل من البشر. الشمس يحجبها الرماد، والفصل شتاء. وباختفاء أي أثر للطعام، يتجه معظم البشر ليتحولوا إلى آكلة لحوم بعضهم بعضًا. يمضي الرجل والصبي باتجاه البحر. الرجل يتذكر العالم السابق، ومع موات ذكرياته يموت ذلك العالم. الولد أبصر النور بعد أن تغيّر كل شيء. والرجل الذي يقترب من الموت يحمل ثناياه حباً أبوياً حاداً وإرادة على البقاء ومع ذلك يحتفظ برصاصتيه الأخيرتين لنفسه ولولده.

                                         ***

سورية، طال الزمن أم قصر، روحك، وليس مجالس الأمم ومنتدياتها، روحكِ وكبرياء شعبكِ العصيّ ستثأر وستحاسب أولئك القتلة، تحت مقصلة العدالة والتاريخ ، ستحاسب ذلك "الجنس اللئيم من الأقزام".

**المقطع الشعري للشاعر العراقي فاضل عزاوي.

دلالات

المساهمون