سورية.. التجّار على "طاولة عشاء" النظام السوري

سورية.. التجّار على "طاولة عشاء" النظام السوري

08 يونيو 2017
(سوق الحميدية 2006، تصوير: ويلي كامينا)
+ الخط -
حمّل النظام السوري مسؤولية التدهور الاقتصادي الذي يعاني منه المواطنون السوريون، بعد قيام الثورة السورية، للقطاع الخاصّ ورجال الأعمال السوريين والتجّار، وحاول من خلال نظامه الإعلامي خلق البغض والكراهية اتجاههم، حيث نسب أزمة تراجع الليرة السوية أمام الدولار الأميركي إلى كل مواطن سوري سارع في تحويل أمواله إلى الدولار الأميركي وساهم في هبوط قيمة العملة، ونسب أيضًا غلاء أسعار السلع الاستهلاكية إلى تلاعب التجار الكبار بها، واتهمهم بتخزين تلك السلع في مخازنهم لفترات طويلة ثم طرحها بأسعار مضاعفة.

ورغم البدائيّة التي يتّسم بها إعلام النظام السوري، إلا أنه استطاع توجيه الغضب الشعبي في كل مرة تغلى بها الأسعار وتزداد صعوبة المعيشة نحو التجّار وأصحاب الأموال، ليبعد دائرة الشك عنه، رغم أنه المستفيد الأكبر اقتصاديًا من الحرب الدائرة، وهو المسؤول الأوّل والأخير عن تحديد قيمة رواتب الموظفين والعمال، ولا تزال أجهزة التموين وحماية المستهلك فاعلة في المناطق الآمنة للنظام السوري، كالعاصمة دمشق، التي تشهد أسوأ حقبة اقتصادية في تاريخها الحديث.

ولكن واقع التجارة في سورية لا يمكن أن نختزله بروايات إعلام النظام التي تصوّر التجّار كوحوش تنهش لحوم ضحايا الحرب السورية. فمنذ بداية الثورة السورية استهدفت قوّات النظام السوري الأماكن المهمّة اقتصاديًا واستثماريًا كعشوائيات مدينة دمشق والمنطقة الصناعية في حلب، وما أن يحل القصف والدمار في منطقة ما حتى يشرع قاطنوها بالهروب منها، تاركين أملاكهم واستثماراتهم، ليبقوا أمام خيارين، فإما أن يبيعوا تلك الممتلكات بسعر زهيد ويكون الشاري غالبًا مستثمرًا تابعًا لمنظومة النظام السوري أو مستثمرًا يحمل جنسية حلفائه، إيرانياً أو روسياً، أو يقوم التجّار بترك استثماراتهم مهجورة لحين عودتهم.

ولكن الخيار الثاني لم يكن أفضل حالًا من الخيار الأوّل، حيث أن النظام السوري أباح استملاك العقارات والأملاك المهجورة بشكل تعسفي في الأماكن شديدة النزاع، وحتى في بعض الأماكن الأخف وطأة، حيث أصدر قرارًا يقرّ بملكية الدولة للعقارات والمنشآت بعد مدة أقصاها ثلاث سنوات دون عودة أصحابها وإثبات ملكيتهم لها.

وفي الفترة الأخيرة أصبحت مطامع النظام باستملاك البلاد واضحة أكثر، ففي العام الماضي شب حريق مفتعل في أحد أهم معالم مدينة دمشق القديمة، في منطقة العصرونية، الواقعة في منتصف سوق الحميدية العريق، وتآكل جزء كبير من محلات ومخازن ذلك السوق، الذي يعود بناؤه إلى مئات السنين، لتقوم وعلى الفور أسماء الأسد باستثمار تلك المحلات والمخازن، وتأخذ على عاتقها إعادة إعمارها، وبعد أشهر نشب حريق ثان في المنطقة ذاتها ليخلف وراءه أيضًا محلّات وعقارات استثمرتها العائلة الحاكمة.

ويبدو أن طموح استملاك النظام للمعالم التجارية والحضارية والتاريخية في دمشق ليس له حدود، فمنذ أيام ضجّت مواقع التواصل الاجتماعي بخبر شكل صدمة لدى السوريين، وهو إغلاق محل البوظة العربية الشهير باسم "بكداش"، والذي يقع في سوق الحميدية، بالقرب من الجامع الأموي.

ورافقت الخبر تصريحات تم نشرها لأحد أفراد العائلة المالكة لمحل "بكداش"، حيث أوضح أن سبب إغلاق المحل الذي يشغل مكانة تاريخية وتجارية هامة في دمشق، يعود إلى تشبيح موظفي الاستعلام الضريبي والإنفاق الاستهلاكي، والذين يجبرونهم على دفع رشوة لهم وكسب رضاهم بمبالغ مالية كبيرة، وابتزازهم وتهديدهم بإمكانية تغريمهم وفرض ضرائب مالية بمبالغ هائلة، رغم السجل النظيف لعائلة "بكداش" والتزامها الدوري بدفع الضرائب للدولة.

مما دفع جمعية حرفيي صناعة البوظة والحلويات لوضع حدّ ورقيب لموظفي التموين والاستعلام الضريبي، إلا أن الدولة لم تستجب لذلك، مما دفع بإدارة المحلّ للتفكير بشكل جدي بإغلاق المحلّ.

وحسب ما قال هيثم وهو أحد كبار تجار سوق الحميدية في دمشق، بأنها ليست المرة الأولى التي تحاول فيها عائلة الأسد امتلاك محل "بكداش"، ففي عام 2005، سعى أقرباء الأسد للضغط على عائلة بكداش والتفاوض معهم على ثلاثة مليارات ليرة سورية، مقابل محل بكداش وعلامته التجارية، إلا أن العائلة رفضت أن تبيع تاريخها حينها وقاومت جميع الضغوطات.

وتاريخ محل "بكداش" يعود إلى 114 سنة تقريبًا، عندما قرر شاب دمشقي يُدعى محمد حمدي بكداش فتح محل لبيع البوظة العربية، بعد أن اخترعها، وافتتح المحل في منتصف وسط سوق الحميدية في العاصمة دمشق، وكان أوّل محل بوظة عربية في عام 1895. وكانت البلاد حينها تعيش في عهد الحكم العثماني، وتم افتتاح المحلّ بحضور السلطان عبد الحميد، وحافظ المحلّ حتى اليوم على الطريقة اليدوية التقليدية في صناعة البوظة، دون استخدام آلات صناعة.

وكان السيّاح يتوافدون إلى المحل من كل أرجاء العالم لتذوق البوظة الأقدم في العالم، وارتبطت معالم المدينة القديمة به وارتبط بها، وعلى جدران المحل صور لأهم الشخصيات الفنية والسياسية والإعلامية التي زارت "بكداش"، ابتداءً من سلاطين عثمانيين ومرورًا بعمالقة الفن العربي كأم كلثوم وعبد الوهاب، وانتهاءً بسياسيي العقود الماضية كمحمد السادس ورفيق الحريري.

المساهمون