Skip to main content
سنويّة ترامب.. عامُ الغدر
مريم الخاطر
ليس غريبا أن تسمى الأعوام بالأحداث، فقد عرف التاريخ العربي قبل الإسلام عام الفيل عندما غزا أبرهة الأشرم الكعبة لهدمها، بعد فشله في تغيير مسار العرب إلى كنيسة القلّيس، وعرف العرب بعدها أعواما حول المقدسات والأوطان، منها عاما النكبة والنكسة، فالأعوام ترصد بالأحداث، خصوصا عندما يُعزى الرمز إلى "المقدسات"، واقعيا ومعنويا.
بعد أسبوع فقط من توليه الرئاسة، حظر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، دخول مواطني ستّ دول عربية وإيران إلى أميركا. وبعد تماديه في مسلسل بناء جدار لعزل المكسيك في حملته الانتخابية، وصف هذا العام دولا أفريقية ولاتينية، يأتي منها اللاجئون إلى الولايات المتحدة، بأنها "بؤر قذرة"، زاعما، باستخدام لغة يخشاها الغرب، من "أن الخطوة ستحمي الأميركيين من الإرهاب"، ما فجّر احتجاجا شعبيا في مناطق عدة، لاتهامه بالعنصرية ضد بعض ممن هم الآن مواطنو دولته.
بعد بضعة أشهر، فاجأ ترامب العالم بأن أول دولة سيزورها رئيساً هي السعودية معلّلا بأنها "تحتضن الموقعين الأكثر قدسية في الإسلام" في تجلّ لأول مراسم المكر السياسي، هادفا كما زعم "تأسيس قواعد جديدة للتعاون والدعم مع حلفائنا المسلمين لمواجهة التطرّف والإرهاب والعنف". هذا ونحن مع ترامب بلا شك في التعاون ضد العنف، وفي مواجهة التطرّف والإرهاب، أيّا كان منشأه، ومهما كانت أشكاله، ولعلنا نذكّر بأن أوله هو "إرهاب الدول"! ولكن أي عنف، وأي إرهاب، يقصد ترامب؟
استبشر بعضهم بقيادته وحاضنة قدسية الإسلام منتصف عام 2017 سبيلا لتحسين العلاقات 
بين أميركا ودول المنطقة، خصوصا في أكبر معارك التمزق السياسي لقمع "إرهاب الدولة"، أعني إرهاب المحتل الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني وأرضه، ولتحقيق السلام بين إسرائيل والعرب. ولكن مع اقتراب نهاية عامه الأول، تلقى العرب والمسلمون الصفعة منه بدمغهم بالإرهاب، وفوقه قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، واعتزام نقل السفارة الأميركية إليها، في خط تزامني محتال أبداه، ليؤكد أن الطريق إلى تهويد القدس يبدأ من "تسييس الموقعين الأكثر قدسيّة في الإسلام"، بتطبيع رحلةٍ ذات خط مباشر، إذ حمل المسار البعد المعنوي من أرض المسجد الحرام إلى أرض المسجد الأقصى، لينسف، في تعمدّ ملحوظ، أكبر المعاني الدينية قدسيةً عند المسلمين "أرض الإسراء والمعراج". وما فتئ يعمل على تعميق الشقاق والخلاف بين دول المنطقة، خصوصا وهو المتهم بمؤامرة إعطاء الضوء الأخضر لصراع الجِوار، في قمة الرياض.
أي خلل بنيوي أحدثه ترامب في إدارة الدولة بعد أن ابتدع أسلوبا لم يتبعه رئيسٌ قبله، وهو اتخاذه من تناقضاته على "تويتر" منصة لإدارة الشؤون السياسية، وتوجيه الرسائل، لا على النطاق المحلي فحسب، بل على صعيد السياسة الدولية. فنّ النرجسية الذي مارس فيه الكذب الإعلامي والسياسي، مستغلا "تويتر" منصةً أجاد استخدامها في رسم سياساته، في تناقض بينه وبين مواقف المؤسسات الرسمية، كالخارجية والبيت الأبيض، انتهى معظمها إلى رد فعل عكسي، وجه له فيها الأميركيون نقدا لاذعا، مؤكدين، إثر تغريداته الفجّة على تقويض أهليته للحكم وهيبته الرئاسية، حتّى وجد دونالد ترامب نفسه، قبل عيد ميلاده الرئاسي الأول، متهما باللوثة العقلية فيما أثاره الصحافي الأميركي، مايكل وولف، في كتابه "النار والغضب.. داخل بيت ترامب الأبيض".
وعبر التغريدات أيضا، نفى ترامب اتهامات وولف، واصفا نفسه "العبقري راجح العقل"، 
و"الذكي للغاية"، وواصفا الكتاب بأنه "محض خيال"، متّهما وولف بـ "المخادع المحتال". وقد اخترع ترامب سياسة رمى بها غيره منذ بداية رئاسته، بأسلوب الإسقاط، ناهرا الصحافة التقليدية الأميركية بالطرد بـ "أنتم كاذبون"، متهما لها بأنها "الناشر الحصري للأخبار المزيفة"، و"أن صحافيين كثيرين في هذه البلاد لا يقولون الحقيقة. لقد أصبح مستوى انعدام النزاهة لديهم خارج السيطرة". وهذه مفارقة أن يتحدث ترامب هنا عن النزاهة، لأنه رأى أن الإعلام الأميركي الحرّ عدوّه الأول، وسيفضي إلى تقويض إدارته. وقد بدأ عداء ترامب الإعلام منذ حملته الانتخابية، عندما وصفه بأنه "عدو الشعب الأميركي"، وكأنه يقول: "أنا الشعبُ". لذلك كرّر مهاجمة الإعلام في تجمع أنصاره في الاحتفال بمئوية رئاسته. أما عشاء رابطة مراسلي البيت الأبيض السنوي، فتغيب عنه للعداوة نفسها، ليسجل نفسه أول رئيس أميركي يتغيب عنه، من دون سبب مثل عذر الرئيس الأسبق، رونالد ريغان، في 1981، وهو التعافي من محاولة اغتياله.
عادى ترامب الإعلام الأميركي، وهو أول من استخدمه سلاحا، بل عزا انتصاره في حملته الانتخابية لـ "تويتر"، فاستمرأ استكمال العام وافتتاح غيره بالتناقضات والأدوات نفسها، إذ هنأ بالعام الجديد في تغريدةٍ له مجدّدا: "يا له من عام، لقد بدأنا للتو". فهل غرّد ترامب أم نعق؟ وما يعنيه ترامب في تغريدته هذه تطبيع آلة الكذب والفوضى والنرجسية وخطط المكر المتوالية، فما هو قادم أدهى وأمرّ، وما ابتلي به العالم من ترامب (المتهم في صحته العقلية) ما هو إلا نزر يسير مما ينتظر فيما يهدد المبادئ الديمقراطية التي قامت على أساسها أميركا، والتي نصبت نفسها ورؤساءها على العالم شرطيا لتحقيقها.
لقد استهزأ ترامب بشعبه وإعلام بلاده مرارا، واستهزأ بمشاعر المسلمين في ظرف عام فقط، حتّى وجد العالم تجرؤ مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، على تهديد الدول التي تصوت ضد قرار أميركا بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس، بل واعتبرته تصويتا وتهجما ضد شخص الرئيس.
"لقد بدأنا للتوّ" فأي تنازلات تنتظر العرب والمسلمين بعد القدس؟ وأي مكرٍ سيئ لم يلحق بهم في عام واحد، حتى يقول فيما تعنيه العامية: "تونا ما بدينا" العدوى الترامبية التي بدت وسماً عند بعضٍ ممن ركبوا "متلازمة ترامب"، أو كما سمّاها الشاعر ياسين السعدي "رِكابُ الغدرْ" في قوله:
عارُ العروبةِ أن البعضَ قد صمتوا/ وبعضُهم في ركابِ الغدرِ قد ركبوا
صاروا عبيداً لأمريكا تسخّرُهُم/ ساد العبيدُ، وغاب السادةُ النجبُ
Twitter:@medad_alqalam