21 اغسطس 2024
سنوات خراب عراقية
التصريح اللافت لرئيس الحكومة العراقية، نوري المالكي، عشية انتهاء عملية التصويت في الانتخابات النيابية في بلاده، أن واجبه أن يواصل الخدمة، إذا طُلب منه ذلك، و"لا أستطيع أن أخذل الناس وأتراجع"، يذكّرنا بأقوال وتصريحات الحكام الدكتاتوريين في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، والذين أنتجتهم ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكانوا يكثرون من الحديث عن تواضعهم، وزهدهم بالسلطة، لكنهم مضطرون للبقاء في مناصبهم، نزولاً عند رغبات شعوبهم المقهورة التي أنعمت عليها العناية الإلهية، بولادة زعماء وقادة مثلهم، لا يتركونها، إلا وهم في توابيت الموت، أو تحت أسنة الحراب!
ولا تزال عندنا حصة كبيرة من هؤلاء القادة، على الرغم من أن زماننا يبتعد، أكثر من نصف قرن، عن زمان ما بعد الحرب الثانية، فقد ظهر رئيس بلغ من العمر عتياً على كرسي نقال، وهو بالكاد يطوي ورقة التصويت، بمساعدة مرافقيه، معلناً، على الملأ، بدء ولايته الرابعة. ونقل رئيس آخر من ردهات مستشفىً يرقد فيه منذ أكثر من عام، ليدلي بصوته في الانتخابات، وهو، بالكاد، أيضا يلوح بأصبعه الملون بالحبر الانتخابي البنفسجي. وثالث قاد انقلاباً عسكرياً على رئيس منتخب، لم تمض عليه، وهو في موقعه سوى سنة واحدة، مستغلا المنهج الخطأ الذي اتبعه الرئيس في إدارة شؤون البلاد، ومعلنا أن "انقلابه" استكمال للثورة من أجل الديمقراطية، وأنه وضع "خريطة طريق"، تقود إلى ما يطمح اليه الشعب، لكن ظهر أن هذه الخريطة ذات ممر واحد، يقوده هو إلى موقع الرئاسة، ورابع تطفو بلاده على بحيرة من الدم، لكنه يشرع في ترتيب انتخابات رئاسية جديدة، تبقيه على الكرسي سبع سنوات أخرى عجاف بالتأكيد. وخامس وسادس وسابع، ودائماً نزولاً عند ارادة الشعب!
بالعودة إلى المالكي الذي يبدو أنه يعاني من ضعف في ذاكرته، هو ينسى صيحات الحراك الشعبي، في بداية ولايته الثانية، "ارحل .. ارحل يا مالكي". في حينها، لم يأبه لتلك الصيحات، وأطلق شعاره الذائع الصيت "ما ننطيها!"، أي أنه لن يترك السلطة لسواه، والسلطة "ملعون أبوها"، لكي تستخدم على نحو صحيح، لا بد من توفر الحكمة لدى المؤتمنين عليها، بحسب الأميركي رالف إمرسون، فاذا افتقدوا الحكمة، وانقادوا وراء أهوائهم خلفوا لشعوبهم الخراب، والطغمة التي نصبها الأميركيون على العراق افتقدت الحكمة، وغلبها الهوى، وسببت لبلادنا كل هذا الخراب، وكان لنوري المالكي النصيب الوافر فيه، بحكم كونه الرجل التنفيذي الأول، والعسكري الأول، وإن لم يكن عسكرياً يوما ما، والوزير لعدة وزارات، والمشرف على قطاعات عديدة، والموجه لسلطة القضاء، والمهيمن على سلطة الصحافة والإعلام ثماني سنوات عجاف يابسات، قيل إن العراقيين، في أثنائها، أودعوه مقاديرهم مرغمين، فلم يورثهم سوى الخراب في كل قطاعات الحياة.
في سنوات الخراب، أمسك، هو وأعوانه ومريدوه، على نحو محموم بمعادلة "السلطة والثروة"، وجعل من الطائفة عوناً له، لاضفاء الشرعية على سياساته، وكان أن أنشأ عن علم، أو عن غير علم، بيئة صالحة لنمو الميليشيات، والمافيات المتصارعة على السلطة والمال والنفوذ التي جعلت من نفسها البديل لما بقي صامداً من مؤسسات الدولة، وعملت على تأجيج العنف والعنف المضاد، وإذكاء الحروب الأهلية، هنا وهناك، وتحول المواطن في ظلها إلى كائن مهمش مقموع ومذل، دائماً، يبحث عمن يحميه في الطائفة، أو العشيرة، أو القرية الصغيرة، وتردت شروط العيش الكريم، وانعدم التقدم الحضاري وكذلك الروح المدنية.
وفي سنوات الخراب تلك، قتل ما يقرب من مليون عراقي، ويُتّم ستة ملايين طفل، وترملت مليونا امرأة، وفق ما ثبتته منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونسيف". وفي سنوات الخراب، هاجر أكثر من مليوني عراقي إلى بلاد الله، طلبا للأمان، وهجر بين مدينة وأخرى في الداخل أكثر من مليونين وسبعمئة ألف مواطن عراقي، إثر حوادث العنف الطائفي، بحسب تقارير الأمم المتحدة.
وفي سنوات الخراب تلك، اعتقل وسجن مئات الألوف، معظمهم أبرياء جرى اعتقالهم، إثر تقارير كيدية، وانتزعت اعترافات كاذبة منهم، تحت وطأة التعذيب، أو التهديد بالاغتصاب، وأعدم آلاف منهم، أو قتلوا داخل مراكز اعتقالهم، كما سجن آلاف منهم، مدداً مختلفة، وبعضهم أنهى محكوميته، أو تمت تبرئته، ولا يزال يقبع في السجن.
وفي سنوات الخراب تلك، أنفقت مليارات الدولارات على مشاريع وهمية، لم يلحظ العراقي لها أثراً، وعلى سبيل المثال، فإن قطاع الكهرباء، وحده، استنفد أكثر من سبعة وأربعين مليار دولار، وما يزال نظام تقنين الكهرباء قائماً في بغداد، وفي أغلب المحافظات.
وفي سنوات الخراب تلك، وثقت هيئة النزاهة العراقية تهريب تريليون وأربعة عشر مليون دولار، وفرار مسؤولين، بينهم وزراء ونواب، وأصحاب درجات خاصة، إلى خارج العراق، خوفا من ملاحقة قانونية، واعتبرت منظمة الشفافية العالمية العراق واحداً من أكثر بلدان العالم فساداً.
وتسألني: كيف لم يسمع بكل هذه الحقائق آلاف الناس الذين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع، ليعطوا نوري المالكي سبعين مقعداً برلمانياً، أو أكثر، ولربما ضمنوا له ولاية ثالثة؟ أقول لك إن بعضهم منتفعون انتهازيون، وبعضهم مضللون مخدوعون، وبعضهم ما تزال لديه بقية أمل، لعل الحاكم تعلم من دروس التاريخ، وفريق رابع يعتقد أن في وسعه أن يضيء شمعة في آخر النفق، لعلها تضيء للحاكم، قبل أن تضيء للمواطن!
ومرة أخرى، حتى لو أعطتنا الانتخابات "مالكيا" آخر، فلن يتغير الحال بسهولة، وسنوات الخراب ستطول!
ولا تزال عندنا حصة كبيرة من هؤلاء القادة، على الرغم من أن زماننا يبتعد، أكثر من نصف قرن، عن زمان ما بعد الحرب الثانية، فقد ظهر رئيس بلغ من العمر عتياً على كرسي نقال، وهو بالكاد يطوي ورقة التصويت، بمساعدة مرافقيه، معلناً، على الملأ، بدء ولايته الرابعة. ونقل رئيس آخر من ردهات مستشفىً يرقد فيه منذ أكثر من عام، ليدلي بصوته في الانتخابات، وهو، بالكاد، أيضا يلوح بأصبعه الملون بالحبر الانتخابي البنفسجي. وثالث قاد انقلاباً عسكرياً على رئيس منتخب، لم تمض عليه، وهو في موقعه سوى سنة واحدة، مستغلا المنهج الخطأ الذي اتبعه الرئيس في إدارة شؤون البلاد، ومعلنا أن "انقلابه" استكمال للثورة من أجل الديمقراطية، وأنه وضع "خريطة طريق"، تقود إلى ما يطمح اليه الشعب، لكن ظهر أن هذه الخريطة ذات ممر واحد، يقوده هو إلى موقع الرئاسة، ورابع تطفو بلاده على بحيرة من الدم، لكنه يشرع في ترتيب انتخابات رئاسية جديدة، تبقيه على الكرسي سبع سنوات أخرى عجاف بالتأكيد. وخامس وسادس وسابع، ودائماً نزولاً عند ارادة الشعب!
بالعودة إلى المالكي الذي يبدو أنه يعاني من ضعف في ذاكرته، هو ينسى صيحات الحراك الشعبي، في بداية ولايته الثانية، "ارحل .. ارحل يا مالكي". في حينها، لم يأبه لتلك الصيحات، وأطلق شعاره الذائع الصيت "ما ننطيها!"، أي أنه لن يترك السلطة لسواه، والسلطة "ملعون أبوها"، لكي تستخدم على نحو صحيح، لا بد من توفر الحكمة لدى المؤتمنين عليها، بحسب الأميركي رالف إمرسون، فاذا افتقدوا الحكمة، وانقادوا وراء أهوائهم خلفوا لشعوبهم الخراب، والطغمة التي نصبها الأميركيون على العراق افتقدت الحكمة، وغلبها الهوى، وسببت لبلادنا كل هذا الخراب، وكان لنوري المالكي النصيب الوافر فيه، بحكم كونه الرجل التنفيذي الأول، والعسكري الأول، وإن لم يكن عسكرياً يوما ما، والوزير لعدة وزارات، والمشرف على قطاعات عديدة، والموجه لسلطة القضاء، والمهيمن على سلطة الصحافة والإعلام ثماني سنوات عجاف يابسات، قيل إن العراقيين، في أثنائها، أودعوه مقاديرهم مرغمين، فلم يورثهم سوى الخراب في كل قطاعات الحياة.
في سنوات الخراب، أمسك، هو وأعوانه ومريدوه، على نحو محموم بمعادلة "السلطة والثروة"، وجعل من الطائفة عوناً له، لاضفاء الشرعية على سياساته، وكان أن أنشأ عن علم، أو عن غير علم، بيئة صالحة لنمو الميليشيات، والمافيات المتصارعة على السلطة والمال والنفوذ التي جعلت من نفسها البديل لما بقي صامداً من مؤسسات الدولة، وعملت على تأجيج العنف والعنف المضاد، وإذكاء الحروب الأهلية، هنا وهناك، وتحول المواطن في ظلها إلى كائن مهمش مقموع ومذل، دائماً، يبحث عمن يحميه في الطائفة، أو العشيرة، أو القرية الصغيرة، وتردت شروط العيش الكريم، وانعدم التقدم الحضاري وكذلك الروح المدنية.
وفي سنوات الخراب تلك، قتل ما يقرب من مليون عراقي، ويُتّم ستة ملايين طفل، وترملت مليونا امرأة، وفق ما ثبتته منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونسيف". وفي سنوات الخراب، هاجر أكثر من مليوني عراقي إلى بلاد الله، طلبا للأمان، وهجر بين مدينة وأخرى في الداخل أكثر من مليونين وسبعمئة ألف مواطن عراقي، إثر حوادث العنف الطائفي، بحسب تقارير الأمم المتحدة.
وفي سنوات الخراب تلك، اعتقل وسجن مئات الألوف، معظمهم أبرياء جرى اعتقالهم، إثر تقارير كيدية، وانتزعت اعترافات كاذبة منهم، تحت وطأة التعذيب، أو التهديد بالاغتصاب، وأعدم آلاف منهم، أو قتلوا داخل مراكز اعتقالهم، كما سجن آلاف منهم، مدداً مختلفة، وبعضهم أنهى محكوميته، أو تمت تبرئته، ولا يزال يقبع في السجن.
وفي سنوات الخراب تلك، أنفقت مليارات الدولارات على مشاريع وهمية، لم يلحظ العراقي لها أثراً، وعلى سبيل المثال، فإن قطاع الكهرباء، وحده، استنفد أكثر من سبعة وأربعين مليار دولار، وما يزال نظام تقنين الكهرباء قائماً في بغداد، وفي أغلب المحافظات.
وفي سنوات الخراب تلك، وثقت هيئة النزاهة العراقية تهريب تريليون وأربعة عشر مليون دولار، وفرار مسؤولين، بينهم وزراء ونواب، وأصحاب درجات خاصة، إلى خارج العراق، خوفا من ملاحقة قانونية، واعتبرت منظمة الشفافية العالمية العراق واحداً من أكثر بلدان العالم فساداً.
وتسألني: كيف لم يسمع بكل هذه الحقائق آلاف الناس الذين ذهبوا إلى صناديق الاقتراع، ليعطوا نوري المالكي سبعين مقعداً برلمانياً، أو أكثر، ولربما ضمنوا له ولاية ثالثة؟ أقول لك إن بعضهم منتفعون انتهازيون، وبعضهم مضللون مخدوعون، وبعضهم ما تزال لديه بقية أمل، لعل الحاكم تعلم من دروس التاريخ، وفريق رابع يعتقد أن في وسعه أن يضيء شمعة في آخر النفق، لعلها تضيء للحاكم، قبل أن تضيء للمواطن!
ومرة أخرى، حتى لو أعطتنا الانتخابات "مالكيا" آخر، فلن يتغير الحال بسهولة، وسنوات الخراب ستطول!