سنة جمال خاشقجي

سنة جمال خاشقجي

19 ديسمبر 2018
+ الخط -
سنة 2018 التي نستعد لتوديعها خلال بعد أيام، بكل أحداثها وأفراحها وأتراحها، ستُسجل في التاريخ باسم شخص واحد، هو جمال خاشقجي، الصحافي السعودي الذي قتل غدرا في قنصلية بلاده في إسطنبول، وبأيدي ضباط ومسؤولين سعوديين، وبأوامر عليا من ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، الذي دانه مجلس الشيوخ الأميركي وحمله مسؤولية القتل البشع الذي هز العالم.
لو ظل خاشقجي صحافيا معارضا يتنقل بين عواصم العالم، ويظهر على الشاشات الصغيرة محللا ومنتقدا، لما استطاع أن يلفت الانتباه العالمي إلى اسمه، على الرغم من أنه كان من أعلام الصحافة في بلاده، ولما نجح في إبراز القضية التي من أجلها غادر بلاده وبسببها قتل، أي حالة الانحراف الكبير التي شهدها الحكم في السعودية، منذ الانقلاب الصامت الذي قاده ولي عهد شاب متهور، من داخل دهاليز نظام حكم أسري تقليدي، وتنصيب نفسه سلطات أكبر من قدراته العقلية وقوة استيعابه الفكري القاصر. وذنب خاشقجي أنه كان شاهدا على هذا الانقلاب، وأراد تحذير شعبه والعالم من مخاطره وتداعياته.

سيظل اسم خاشقجي يلاحق اسم بن سلمان، حتى لو نجح الأخير في تنصيب نفسه ملكا على بلاده، وحتى لو صنع من سلالة آل سلمان خلفا لسلالة آل سعود، فإن دم الصحافي المغدور سيظل يلاحقه كظله، إلى أن تنكشف الحقيقة، وقد بدأت معالمها الكبرى تظهر، خصوصا منها التي تربط بين القاتل والمقتول، أي بين خاشقجي وبن سلمان.
طيلة 38 سنة من الحكم، ظل اسم المعارض المغربي المهدي بن بركة الذي قتل في ظروف مماثلة وغامضة، في ستينات القرن الماضي في فرنسا، واختفت آثار جثمانه إلى الأبد، تماما كما حصل مع جثمان خاشقجي، تلاحق حكم الملك الراحل الحسن الثاني كشبح، وحتى بعد أن رحل الرجلان إلى دار البقاء، ما زال اسماهما يذكران مقرونين كلما حلت ذكرى الجريمة البشعة التي لم ينجح مرور 53 سنة، هو عمرها، من محو آثارها، وبالأحرى حمل الذاكرة الجماعية للناس على نسيانها.
لقد حولت الجريمة البشعة، ولغز اختفاء الجثمان، بن بركة إلى أسطورة. وعلى الرغم من محاولات الحسن الثاني تبرئة نظام حكمه من تهمة التورّط في ارتكابها، وعبر عن ذلك صراحةً، في أكثر من كتاب وتصريح مسجل ومكتوب، إلا أن دم الضحية ما زال يلاحق الملك الراحل الذي سيظل يتحمل المسؤولية السياسية في القتل، لأنه حصل في عهد حكمه، وبأمر ومعرفة من مقرّبين منه، وبتنفيذ من عناصر يشتغلون في جهاز رسمي في الدولة التي كان هو رئيسها والمسؤول الأول عن سلامة كل مواطنيها، ومحاسبة كل من خرق قوانينها، أما الجلادون والقتلة فظلوا يعيشون مختبئين مثل جرذان، إلى أن قضوا، وما زالت لعنة الجريمة تلاحق أسماءهم العائلية أينما حل ذووهم وارتحلوا.
وشتان ما بين الملك الراحل الحسن الثاني والأمير السعودي محمد بن سلمان، فالأول حمَّله موقعه على رأس الدولة المسؤولية السياسية عن جريمة مقتل معارضه، أما الثاني فإن الأدلة التي ظهرت حتى الآن تورّطه شخصيا، وليس بصفته السياسية فقط، في تحمّل مسؤولية ما حدث. وعلى الرغم من التشابه الكبير بين جريمتي قتل بن بركة وخاشقجي، إلا أن ما توفر من أدلة، واعترافات رسمية من الدولة السعودية على تورّط مسؤولين فيها في ارتكاب جريمة قتل خاشقجي، لم يتوفر في قضية مقتل بن بركة، على الرغم من مرور نصف قرن ونيف على ارتكابها. ومع ذلك، فإن دم الضحية، في الحالة المغربية، ظل وما زال يلاحق المسؤولين عنها ومنفذيها، ومن علموا بها، ومن تستروا عليها حتى يوم الناس هذا.

وفي المغرب، وعلى الرغم من مرور خمسة عقود، ما زال الناس يتذكرون عام 1965، بأنه سنة اغتيال المعارض بن بركة. وفي العالم سيظل عام 2018 بالنسبة لصحافيين كثيرين في العالم، وفي تقارير المنظمات الدولية، وفي ذاكرة أبشع الجرائم عبر التاريخ، وفي كتب الأزمات السياسية، يذكر مقرونا باسم جمال خاشقجي، يٌذكِّر الأجيال القادمة ببشاعة الجريمة التي ارتكبت في حقه، وبوحشية جلاديه، وصلافة الحاكم الآمر بالقتل، والمتستر على القتلة.
يكفى خاشقجي أن جريمة قتله البشعة حوّلته إلى أسطورة، وأردت جلاديه إلى ملاحقين، ليس فقط من المحاكم السعودية التي لا أحد يثق في أحكامها، وبالأحرى في عدلها وقصاصها، وإنما من طرف شبح الدم المغدور الذي لا تزول آثاره مع مرور السنين.
في عام واحد، برز اسم خاشقجي، وهو الذي عاش 63 حولا، قضى أغلبها صحافيا متنقلا بين المنابر والمواقع الرسمية، وكاد ينتهي كاتبا منزويا في ركن صحيفةٍ لا حياة فيها، ليتحول إلى مالئ الدنيا وشاغل الناس، ومن داخل أكبر مؤسسات الدول الديمقراطية. لو كتب لخاشقجي أن يعيش، ويدبج آلاف المقالات، وفي أكبر الصحف العالمية، لما أحدث مداد قلمه ما أحدثه دمه المغدور من تحولاتٍ جيوستراتيجية ما زالت تتفاعل، ولن تكون سنة 2018 سوى بدايتها التي ستظل تؤرّخ لها مقرونةً دائما باسم أحد أعلامها الذي لم يختر قط أن يكون أحد أبرز أبطالها.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).