سليمان الحلبي والحاجات الغريبة

سليمان الحلبي والحاجات الغريبة

14 ديسمبر 2016
+ الخط -

لفترات طويلة كنت مثار تعجب واستغراب مجموعة الأصدقاء/الزملاء، رفقاء العمر بجريدة الجمهورية، حيث خطواتنا الرسمية الأولى في رحلتنا مع الصحافة؛ فهم يفضلون أن يمروا في طريقنا إلى نقابة الصحفيين، بشارع عبدالخالق ثروت، عبر شارع عماد الدين، ثم شارع 26 يوليو، فهناك "مناظر"، ووجوه، وناس، أجمل.

أما أنا " ففقري"، بالفطرة والسليقة، كما كان أحدهم يتندر، مؤكداً أنني بالتأكيد "مدكن"، التعبير المصري عن "إخفاء شيء ما"، على قصة غرام مع إحدى الحسناوات، تجعلني متعففاً، ورافضاً لفكرة "التسكع البريء"، كما يصفها الأكثر وقاراً فينا؛ وحين أقدم أدلة خيبة تفسيرهم، لأننا تقريباً لا نفترق إلا في ساعات النوم، يقفز تحليل أكثرنا جرأة، كانت تلك الجرأة لا تتعدى غزله الدائم البريء غالباً، الوقح في أحيان قليلة، تجاه من يلتقي من البنات، من عاملة الشاي المسكينة، وحتى أبعد زميلة عن الحسن والجمال.

صاحبنا هذا، لم يكن يملّ من تكرار نصيحته الأزلية، بضرورة مراجعة نفسي، أو الذهاب لطبيب، يخلصني سريعاً من "هرمونات الجدية في تركيبتي الداخلية"، يقولها بثقة واقتدار وضعته مبكراً في مقدمة من يوصفون الآن "خبراء استراتيجيين" يتحدثون ويفتون في أي شيء وعن أي شيء، بشرط وحيد، هو فقدانهم لأية خبرة، وافتقادهم لأية موهبة في القضايا التي يخوضون فيها.

أعود إلى الشجار اليومي الهادئ غالباً، الصاخب أحياناً، المنتهي في كل الحالات بضحكات من القلب لا تنتهي، إذ أصر على أن الطريق الأسرع، الأهدأ، والأجمل أيضاً، رغم بعض زحامه، هو المرور عبر شارع سليمان الحلبي، قصير المسافة، مثل سيرة صاحبه، عميق الأثر، كما اسم صاحبه أيضاً؛ وأذكر نشوتي بالانتصار، حين نبدأ الرحلة من الشارع الأثير، مفتتحة بكلامي الممل عند أكثرنا حيوية"، عن شخصية سليمان الحلبي، التي دفعت صاحبنا إلى التشكيك في كوني من المنوفية، وأن الأقرب إليه، هو أن لي أصولاً شامية، هيئتي قبل ظهور عوامل التعرية عليها، ربما كانت توحي بذلك.  


كنت أتصور أن الزمن، ومرور الوقت، وأشياء أخرى، ستأخذني من حنين غامض في بعض جوانبه، لتذكر شيء من سيرة سليمان الحلبي، الشخصية، لا اسم الشارع؛ لكن إجرام بشار، وبوتين، ونصر الله، وداعش؛ ومن خلفهم أمم، ونظم مجرمة أخرى، ومع كل هؤلاء زمرة تنتمي بكل أسف، إلى الإعلام المصري في أكثر سنواته انحطاطاً، ترفض أن تغادرني سيرة الفتى سليمان ونس الحلبي، الذي تقول سطور من سيرته، إنه ولد عام 1777، في حلب، وسافر منها إلى القدس، وعبر من غزة، التي يفرض عليها عبدالفتاح السيسي، حصاراً قاتلاً لشيوخها ومرضاها، بالمعنى الحرفي للقتل منذ سنوات، ووصل القاهرة بعد 6 أيام، ليسكن في رحاب حي الأزهر، مؤكداً للمقربين منه، وكانوا من نفس مدينته، وفقاً لرواية المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي، أنه حضر لمقاومة الاحتلال الفرنسي لمصر.

تقول الرواية التاريخية أيضاً، إن عمره كان 24 عاماً حين اغتال قائد الحملة الفرنسية على مصر (1798م-1801م)، إذ إن كليبر ومعه كبير المهندسين في البستان الذي بداره بحي الأزبكية، فتنكر سليمان الحلبي في هيئة شحاذ عند كليبر ودخل عليه، ومد سليمان الحلبي يده وشده بعنف وطعنه 4 طعنات متوالية أردته قتيلاً.

حققوا معه، ومع من عرف أمره من مشايخ من الأزهر، حاولوا ثنيه عن الأمر، وأصدر مينو في اليوم نفسه أمراً بتكليف محكمة عسكرية بتاريخ 15 و 16 يونيو/حزيران 1800، مؤلفة من 9 أعضاء من كبار رجال الجيش، وكانت رئاسة المحكمة للجنرال رينيه. وحكموا عليهم حكماً مشدداً بالإعدام إلا واحداً، فحكم عليه الفرنسيون بحرق يده اليمنى، وبعده يتخوزق ويبقى على الخازوق لحين تأكل رمته الطيور، كما كانت العادة في أحكام الإعدام.

ونفذوا ذلك في "تل العقارب" بمصر القديمة، على أن يقطعوا رؤوس الأزهريين أولاً ويشهد سليمان إعدام رفاقه ممن عرفوا أمره ولم يبلغوا الفرنسيين بالمؤامرة، ومن ثم يحرق بارتيليمي يد سليمان الحلبي ثم يرسله إلى خوزقته، ويردد الحلبي الشهادتين وآيات من القرآن. وقد ظل على تلك الحال أربع ساعات، حتى جاءه جندي فرنسي مشفقاً لحاله فأعطاه، بعد خروج الجميع، كأسا ليشرب منه معجلاً بذلك بموته بالحال.

سألت نخبة من الزملاء عن سليمان الحلبي، فقال أحدهم طبعاً أعرفه، فيه "التابعي"، أشهر محلات الفول والطعمية، في القاهرة، وقال آخر فيه شارع اسمه "كده"، في مدينة مشتول السوق، بمحافظتنا الشرقية، وقالت ثالثة:  أنت بتقول حاجات غريبة بجد"!

وأكملت بكائي على مصر، والمصريين.

أما حلب، فتبقى شهادة حية على أزهى عصور "حيونة الإنسان"، في كل مكان.

لكنها من تحت الأنقاض ستنتصر، وترفع قامتها يوماً، لتبقى شاهداً على زمن البؤس العربي.

 

دلالات

50C80A35-B0FB-49CC-BE88-9A8FC8B80144
نزار قنديل
كاتب وصحافي مصري، مدير مكتب مصر ورئيس قسم المراسلين في موقع وصحيفة "العربي الجديد". عمل في عدد من المؤسسات الإعلامية العربية والمصرية. يعرّف نفسه: كل لحظة تمر، بدون أن تكون لك كلمة حق وخير وجمال، هي وقت ضائع. كل لحظة لا تصمت فيها، إذا لم يكن لديك كلمة نافعة، هي ثرثرة ضارة. بعيداً عن الوقت الضائع، والثرثرة، أحاول أن أكتب. إن شئت فاقرأ ما تيسر من كتابتي.