سليمان الحقيوي: الصورة اليوم هي الخطاب الأكثر استهلاكاً

سليمان الحقيوي: الصورة اليوم هي الخطاب الأكثر استهلاكاً

08 مارس 2019
سليمان الحقيوي: الربيع العربي هزّ كراسي الحكّام (العربي الجديد)
+ الخط -

يُعتبر المغربي سليمان الحقيوي أحد النقاد السينمائيين، الذين استطاعوا، في مدة قصيرة جدًا، إيجاد مكان خاص بهم في المشهد السينمائي المغربي. لكتابه الثالث، "الخطاب السينمائي: قضايا في التلقّي والتأويل" (2019، منشورات "سليكي إخوين"، طنجة)، حيّز نقديّ في الوسط الثقافي المغربي، ضمن تجارب نقدية سينمائية جديدة، "خرجت على الطاعة" كما يقال، بإيجاد أفق سينمائي مغاير لها، عبر مقاربات لها علاقة بقضايا وإشكاليات جديدة مطروحة ـ حاليًا ـ على السينما العربية.

مؤلِّف "سحر الصورة السينمائية" (2013) و"نقد السينما الأميركية" (2015)، ينتمي إلى هذه الموجة الجديدة في النقد المغربي، الحاضرة في الأعوام الأخيرة، محرّرة النص النقدي من الكتابة الغوغائية التي ترتبط بالشخص لا بالعمل الفني، وبما يفرضه من فِتنة جمالية وفنية وفلسفية.

بمناسبة صدور كتابه الأخير هذا، التقته "العربي الجديد" في الحوار التالي:

كونك أحد الوجوه النقدية الجديدة في المغرب اليوم، أودّ أن أبدأ معك بسؤال عن علاقتك بالصورة: متى وأين وكيف "أدمنت" عالم الصورة إلى هذه الدرجة، التي جعلت الكتابة لديك تتّخذ طابعَ مشروعٍ نقديّ سينمائي مقبل؟
عادة، تُنسب علاقة الجيل الذي سبقنا بالسينما إلى تجربة الأندية السينمائية، التي ساهمت في تكوين أسماء كثيرة في مجالات شتى. لكن، بالنسبة إلى الجيل الذي أنتمي إليه، والذي بدأ الكتابة في الألفية الثانية، فالتجربة مغايرة. نحن لم نعاصر الأندية السينمائية في وهجها، وكانت هناك بدائل كثيرة لمشاهدة الأفلام. بالنسبة إليّ، تجربة الكتابة تأسّست بجدّية في الجامعة، خصوصًا بفضل الانتماء إلى مجموعة تبحث في السينما والسمعي ـ البصري في "كلية الآداب والعلوم الإنسانية" في تطوان، التي أسّسها حميد العيدوني وأشرف عليها.
التجربة هي الأولى من نوعها، التي أوجدت للسينما مساحة داخل الجامعة، فكان الوعي بالكتابة النقدية من داخل الجامعة مختلفا عنه من خارجها. ربما ينعكس هذا على كتاباتي المنقسمة بين نقد الأفلام والبحث في قضايا محلية ودولية عن السينما، والتفكير في مشروع نقدي يركّز أساسًا على الخطاب السينمائي، وعلى مختلف العلاقات التي يقيمها مع الفنون وأجناس الكتابة الأخرى.

أصدرت مؤخّرًا مُنجزًا نقديًا مُهمًا بعنوان "الخطاب السينمائي: قضايا في التلقّي و التأويل". ماذا عنه؟
يُضمِر الكتاب قلقًا كثيرًا يُصاحب علاقتي بخطاب الصورة منذ البداية، خصوصا عنصري التلقّي والتأويل. كنتُ دائم الانشغال بتقاطعات الصورة بغيرها من الخطابات، كالأدب والموسيقى والتشكيل، وأسئلة أخرى تتعلّق بغياب عادات تلقٍّ وبروز عادات تلقٍّ أخرى.
ربما نحن جيل عاش انتكاسة الفنّ وتراجع حصونه لفائدة خطابات أخرى متشدّدة، دفعت بالصورة بعيدًا عن اهتمامات الناس. لذلك، انشغلت بهذه الأسئلة في الكتاب لإعادة النقاش النقديّ حولها.

بدءًا من العنوان (الخطاب السينمائي)، هل تؤمن بوجود خطاب سينمائي عربي وآخر غربي، له خصوصياته ومميزاته الفنية والجمالية والفكرية والتاريخية، التي يختلف فيها عن الأول؟
من أهم مرتكزات الخطاب أن يتضمّن عناصر مرْسَلَة تُضمر، بدورها، خصوصيات المُرسِل أو الباثّ. هذه الخصوصيات، في السينما تحديدًا، يجب أن تخلق ميزتها من الثقافة والتاريخ المحليَّين. النجاح عبر هذين العنصرين والتعبير عنهما جماليًا يشكّل خطابا واعيًا ومُفكَّرًا فيه، وهذا تحقّق كثيرًا مع تجارب مخرجين. لكنه لم يُصبح سمة مميزة للسينما العربية كلّها، وبالتالي فالخطاب السينمائي المنتج لدينا يعبّر به أفرادٌ وإليهم يُنسَب. الخطاب السينمائي الغربي له سياق مغاير تمامًا.

في كتاب "الحساسية الجمالية" تحدثت عما سميته بضرورة الولوج إلى الخطاب المركّب، الذي تتقاطع فيه المعارف العلمية، بغية تحرير النقد من صيغته الوصفية، التي حاولت الثقافة العربية فرضها منذ العصر الوسيط. ما موقفك من هذا الطرح، انطلاقًا من "الخطاب السينمائي"؟
في كلّ مرّة كانت تتسيّد الساحة النقدية نظرية نقدية أو منهج نقدي يستنفذ خصائصه، كنا نسمع عن ضرورة الانفتاح على نظريات أخرى، أو الجمع بين أكثر من نظرية واحدة. في الأدب، تحدثوا عن منهج تكاملي. بالنسبة إلى السينما، الانفتاح على نظريات ومناهج متعدّدة ليس خيارًا بل ضرورة. التفكير في السينما يفرض أساسًا نوع المقاربة المركّبة، كون السينما أولاً خطابًا يصهر الفنون كلّها، ومحاولة تحليل خطابها بنظرية أو منهج أحادي لا يُبرز منها إلا جانبًا، بينما تبقى جوانب أخرى مهمَلة. بحسب هذا الكلام، تفرض السينما علينا الانطلاق من عُدّة نقدية مركّبة ومتعدّدة.

من القضايا التي تناولْتَها بعناية موضوع الصورة في حياتنا المعاصرة. إلى أي حدّ يمكن الحديث عن سلطة الصورة السينمائية وسحرها في صناعة القرارات السياسية، وتضليل الرأي العام العربي؟
خطاب الصورة اليوم هو الخطاب الأكثر استهلاكًا من قِبل الناس. الهواتف والوسائط المتعدّدة سهّلت عليهم ولوج عوالمها. لكن، مع هذه السهولة، يأتي الوجه السلبي للصورة، الوجه الذي تبتعد الصورة فيه عن الجانب الفني، وتصبح أداة اضطهاد وتضليل وصناعة رأي بآليات مختلفة. لا أتحدّث عن دور الصورة في الصراعات السياسية بين البلدان المنتجة لها فقط، بل عن كل مُنتَج للصورة. الهاتف اليوم جعل الجميع قادرين على إنتاج الصُوَر. لكن، أنظر إلى ما يفعله الناس بالصورة: الفضح والتضليل والابتزاز والتشهير... إلخ.

للأدب والسينما علاقة تاريخية تراكمية في الغرب، مقارنة مع النزر القليل الذي عرفته بعض الأعمال العربية. برأيك، ما هي تجليات هذه العلاقة الناجحة في المُنجز السينمائي العربي؟
حاجة السينما إلى النص الروائي ظهرت منذ بداية السينما نفسها، خصوصًا فترة اشتغال المخرج ديفيد غريفث (1875 ـ 1948) على أعمال تشارلز ديكنز (1812 ـ 1870). هذه العلاقة تطورّت واستقرّت على حالة مثلى في السينما الأجنبية. في السينما العربية (المصرية تحديدًا)، أعتقد أن العلاقة مرتهنة أساسًا بسياق فني معيّن، متى يتوفّر، تصبح العلاقة ممكنة. فالنص الروائي المغربي مثلاً، والمراحل التي مرّ بها منذ التأسيس إلى التجريب، لم يواز في تشكّله التصوّر نفسه الواقف خلف الكاميرا في المغرب. كان النص الروائي منشغلا بأسئلة لم تكن هي بالضرورة أسئلة السينما، رغم أن الواقع واحد. ومع ذلك، انتقلت إلى السينما بعض النصوص، بدءًا من مسرحية "حلاّق درب الفقراء" ليوسف فاضل، التي نقلها إلى السينما المخرج محمد الركاب، مرورًا برواية "الغرفة السوداء" للطاهر بن جلون، التي نقلها إلى السينما المخرج حسن بن جلون، وصولاً إلى رواية "سرير الأسرار" للبشير الدامون، التي نقلها إلى الشاشة المخرج الجيلالي فرحاتي. الآن، انتقلنا إلى مرحلة أخرى، فهناك وفرة في كتابة الرواية، ووفرة في إنتاج الأفلام، رغم أنّ السينما والرواية تشتغلان، كل واحدة منهما، على حدة. أما السينما المصرية، فحالها مختلف: النص الروائي مرحب به دائمًا في الشاشة الكبيرة. تجربة نجيب محفوظ مثلاً، أغلب نصوصه تحوّلت إلى أفلام ناجحة، عدا عمّا كتبه كنصوص أصلية للسينما.

"السينما والربيع العربي" أحد أهم المواضيع التي تطرقت إليها في كتابك أيضًا. برأيك، ما مدى حدود التقاطع والتلاقي بين الفني والسياسي في المُنجز السينمائي، الذي حاول التصدّي لمشاهد واقع ما بعد الربيع العربي؟
التحوّلات الكبيرة في تاريخ البشرية تُنتِج فنًا وأدبًا رفيعي المستوى، والربيع العربي، بالنسبة إلى منطقتنا العربية، شكّل "رجّة كبرى" اهتزّت بفضلها كراسي الحكّام. لكن مآلاتها لم تكن كالأحلام التي صاحبتها. ولا شكّ في أنّ هذه الفترة أنتجت خطابًا سينمائيًا يسترعي الانتباه والاهتمام، وهو مشروع أعمل عليه من خلال الكتاب، وفي بحوث أخرى مستقبلاً.

ختامًا، هل تؤمن بضرورة عنصر المغامرة في التأويل، وفي تفكيك الصورة، وفهم أنماطها وطرق تشكّلها، سواء تعلّق الأمر بلوحة فنية أو بعمل سينمائي؟
بعيدًا عن الأسلاك التي تحيط بمفهوم التأويل في النصوص الدينية، فالنص، أيّ نص، يصبح مُلكًا لقرّائه بعد إنتاجه مباشرة، وحياته تبدأ بقراءتهم إياه. الصورة لا تخرج عن هذه القاعدة، وحتى مع الحذر الشديد من التأويل، فهو أحد العوامل التي ساهمت في سفر النصوص وتداولها واستعادتها عبر الأزمنة. كما أن أغلب المقاربات، التي أنتجت نظريات ومناهج حديثة في زمنها، كانت تنطلق من مبدأ المغامرة في التأويل.

دلالات

المساهمون