سلاسل إنسانية مقطّعة

سلاسل إنسانية مقطّعة

12 يوليو 2019
+ الخط -
رأيت منشوراً لأحد الأصدقاء يتكلم عن فلسفة "إن لم تكن معي فأنت حكما ضدي"، وكيف أنه لا يمكنك أن تكون مسانداً لأمر ما، ومنتقداً لجزئية فيه، بل عليك أن تكون منقاداً وراءه بشكل أعمى مليون في المائة، وألا تفتح فاهك بالاعتراض على تفاصيل داخله أبداً. وهو ما ينطبق على كل الأشياء. أبغض الـ"إمّا" و"أو" الآن، ولكني كنت من أكثر الممارسين لها، وخاصة لمحاولة فهم الأشخاص المحيطين بي، وربما تصنيفهم ليسهل علي التعامل معهم. لكن بعد كل محاولات فهم الذات التي مررت بها، وأنني أنا نفسي لا أندرج تحت إحدى الفئتين في أي أمر كان، بتّ أتساءل لمَ يختصر طيف واسع من التنوعات بأمرين فقط؟ لماذا هي ثنائية الـ"إما" و"أو"؟ لمَ علينا أن نختار موقفاً واحداً؟

الجيد والسيئ هي أكثر الثنائيات التي تواجهنا في حياتنا وتربكنا، فموقف واحد يمكن أن يحدد مستقبل علاقة، ومستقبل سمعة. رغم أن تقلبات الحياة تجعل الجميع رمادياً بألف ظلٍّ وظل.

التساؤلات حاصرتني ولكني تذكرت أنه منذ نعومة أظفارنا، ووعينا المجرد للحياة، تشربنا فكرة الثنائية، وخاصة عندما كنا نكتسب إحدى أدوات عيشنا للحياة، اللغة! فقد دُرّسنا الأضداد في العربية والإنكليزية، حتى يسهل علينا التعامل مع الأمور، فالليل يقابله النهار، والشمس يقابلها القمر، والحب تقابله الكراهية، والأبيض يقابله الأسود، والجيد يقابله السيئ، أما الرجل فتقابله المرأة. هذه طريقة جيدة لحصر الأحكام وتحديد الأفق.

وتصبح العلاقات الإنسانية بدورها غريبة، فهي تقوم على هذه الأضداد، تقسو بقسوة العلاقة الصارمة بين طرفين تحتاج للتنقل بينهما إلى فصل مطلق، والعلاقات أصلاً خيوط رقيقة قبل كل هذا، تتعرض للكثير من الشد والانبساط، هشة ومعرضة للأذى. موضوع علاقات البشر وارتباطهم وانفصالهم ببعض، اقترابهم وابتعادهم، حبهم ونفورهم يستهويني، أستغرق فيه ساعات طوال لتحليله وفهمه.

في إحدى محاولات الاستغراق، كتبت منذ أكثر من سنة ونصف منشوراً على "فيسبوك" قلت فيه: "جمال علاقاتنا السّابقة يأتي في أنّها عفويّة، عضويّة.. تحدث بشكلٍ تلقائيٍّ، دون بذل جهودٍ كبيرةٍ منّا، حيث إنّها تتعرض لشروطٍ مناسبةٍ من ضغطٍ وحرارةٍ، كما تعلّمنا في معادلات الكيمياء، تتطوّر بدون ضغط الزّمن، أو ربما عليّ القول إنّها تحدث ضمن مجالٍ زمنيٍّ لائقٍ، وربما الزّمن يضفي عليها جمالاً وقوّةً وارتباطاً! أمّا في زحمة عالمنا اليوم، في ظلّ انتقالنا إلى عالم الوحدة والغربة، فإنّنا نفرض على علاقاتنا شروط درجات حرارةٍ وضغطٍ عالية، ونتمنى صنع الذّهب في أيام، والضّغط الزّائد يزيد القساوة، ممّا يجعل العلاقة معرّضةً للكسر بسهولة". 

بالعودة إلى الصّداقة.. نرجو أحياناً الكثير من علاقات عمرها سويعات في عالم العلاقات الإنسانية، ذلك أننا نعلّق عليها الكثير من الآمال. وكثرة الآمال والتوقعات تزيد الضغط فتنهار الصداقة بشكل طردي متسارع مع ازدياد التوقعات وضغط الاحتياج. فهمي لهذا الأمر يخفف من وطأة التعب والوحدة. وعندها سعادتي تكون غامرة لإثمار علاقة واحدة في مختبر العلاقات الكيميائي. والآن بعد مرور هذا الوقت، زادت قناعتي أكثر بوجود مختبر العلاقات الكيميائي وبامتداد تأثيره ليشمل علاقات الحب والإعجاب وعلاقات الصداقة القديمة أيضاً، فالأخيرة تنهار تحت تأثير الزمن بسرعة أيضا. يضاف إليها عامل آخر هو البعد.. والبعيد عن العين بعيد عن القلب. أو هكذا قالوا.

نعم، العلاقات الإنسانية كثيرة التعقيد و"الشربكة"، أعلم أني أكتب عن العلاقات كثيراً، والمشاعر الداخلية أكثر، وعن الوحدة أكثر فأكثر، وأبرر ذلك بحقيقة أني إذا لم أكن بخير، فالآخرون لن يكونوا بخير، وعلاقاتي معهم لن تكون بخير. وإن لم يكن ما بداخلنا صحياً ونقياً ومتجانساً أو ذا أقسام يتقبل بعضها الآخر، فلن تكون هذه السلاسل التي تربطنا مع بعضنا متينة ومتوازنة، تستطيع تحمل الضغط الناجم عن ضغوطات الحياة. 

في غربتي، ما زلت أرجو الكثير من علاقات حديثة الولادة، وكأني غريق أتشبث بقشة علّها تنقذني من أمواج الوحدة التي تتلاطمني على جدران الزمن، وأُذهل نفسي بمرونتي. أو لا أدري ماذا أسميها قدرتي على العطاء لكل شخص أتعرف عليه، وقدرتي على التعلق به/ا، وقدرتي على التعافي من خيبات الأمل المتلاحقة التي أصاب بها. أذهل نفسي بالأمل الذي يتجدد لدي عند تعرّفي على شخص تتوافر فيه معايير لا أعرفها بالتحديد. ولكني أجد نفسي مشدودة للتعرف عليه/ا أكثر، أسأل نفسي لمَ هذا القدر الهائل من مشاعر الإثارة؟ بكل صدق. تطفو أناتي العليا وتنظر إلي من الخارج مستغربة.. لماذا؟ وما الذي يميز هذا الشخص لكي تشعري بقدرة على الابتسامة العريضة مجدداً، وبدء الأحاديث الصغيرة للمرة المليون؟ ربما ذلك المرء ليس مميزاً، ولكني أشعر بالسعادة بازياد عدد الخيوط التي تربطني مع الناس، لأني أشعر بغربتي عنهم. لكنّ خيطاً جديداً يمثّل لي إمكانية علاقة مثمرة. 

تربيت وربيت نفسي على أن أحب الناس، وأحاول التواصل معهم بأفضل طريقة ممكنة، لكني أرتكب العديد من الأخطاء في نسج هذه الخيطان معهم، هي حياة واحدة ونتعلم من أخطائنا، لهذا أظن أنني أود تقديم بعض النصائح لنفسي للاستمرار بالحياة مع حفظ ماء الوجه للتذكر هنا وهناك.

  • أرجوكِ! لا تثقي في شخص بسرعة.. ثقي به/ا بعد فترة من الوقت. على الأقل، لا تشاطري الآخرين مكنونات قلبك. لا بل أهم من ذلك، لا تشاطريهم مخاوف الطفولة وقصص الضياع والظلم، ليس لأنهم ليسوا أهلا للثقة، بل لأن هذا يجعلكِ عارية أمامهم، ولا داعي للشعور هكذا.
  • أرجوكِ! أظهري للشخص أنه غير أهل للثقة إذا لم يكن كذلك. لا تشعري بالخجل منه. لا يجب أن يفلت بحقيقة أنه أذاكِ أو خرق عهد الصداقة أو خان ثقتك.
  • أرجوكِ! لا تتحمسي كثيراً عند مقابلة ناس جدد. أتمنى ألا ترعبيهم من شدة حماستك التي لا يستطيعون تفسيرها، ومن جهة أخرى حتى لا يخيب أملك بأنهم ليسوا على السطر نفسه الذي أنت فيه، أو ربما هم لا يقرأون الكتاب نفسه حتى.
  • لا تضغطي على نفسك، ولا تخرجي سعادة على وجهك إذا كنت حزينة. لأن هذا سوف يستهلك طاقتك كلها، ونحن نعلم ماذا سيحدث عندما نستخدم الهاتف في مكالمة فيديو في آخر 8% شحن. سينطفئ الجهاز! 
  • أرجوكٍ! أحبي نفسك، وتقبليها كما هي. هي طفلتك الوحيدة فلا يجوز أن تفعلي ما يحزنها أو يغضبها، ربما لأنها ستنفجر عليك يوما ما، فاحفظي ماء وجهك من انفجار داخلي وخارجي.
8ABCAC01-1245-48ED-ABFE-223407FDAB16
هدى فنصة

مهندسة معمارية سورية. حاصلة على ماجستير في العلوم، اختصاص البناء والتصميم العمراني في التنمية من "وحدة تخطيط التنمية" في كلية لندن الجامعية UCL، بالإضافة إلى درجة الماجستير التأهيلي في هندسة المدن، تنمية المدن المستدامة من سورية وفرنسا.

مدونات أخرى