سكّر بحت ورياضيات بحتة

سكّر بحت ورياضيات بحتة

06 نوفمبر 2017
(عمل تركيبي لـ دانيال كانوغار)
+ الخط -

على مدى العصور كان السكّر موجوداً ضمن مأكولات طبيعية مثل الفواكه. في يومنا هذا، يُنْتَزَع السكر ويباع كـ"سكر بحت"، ويُعطى إيحاء بأنه تطور عبر تكنولوجيا تستطيع فصله وبيعه مستقلاً عن سياقاته الطبيعية. مضار السكر البحت كثيرة وعميقة، وتظهر في نواحٍ عديدة، خاصة بالنسبة للأطفال. كان الإنسان يستهلك كميات قليلة معقولة من السكر من دون أي عواقب صحية. في العصر الحديث يتم استخراجه من أغذية طبيعية، ويستهلك منفصلاً عنها، ويسبّب ما يسبب من أذى.

كذلك الحال بالنسبة للرياضيات، والتي على مدى العصور كانت موجودة ضمن ظواهر عديدة، كالفلك والزراعة وكأداة للعيش بحكمة. انتُزِعَت في العصر الحديث وأصبحت "تُباع" للطلبة كـ"رياضيات بحتة".

درَستُ الرياضيات ثم درّستهُا سنوات عديدة. عشتُ شائعة أن الرياضيات البحتة هي أرقى أنواع الرياضيات، إذ تعكس معرفة فكرية عالية ومجرّدة وعالمية. وصدّقت ذلك.

انتزاع الرياضيات من سياقها وتجريدها من أي معنى هو عمل تخريبي للعقل والإدراك، وتحويلنا إلى عبيد نفتخر بعبوديتنا. مضار الرياضيات البحتة كثيرة، لكنها غير ظاهرة للعين وخفية عن العقل. تشمل هذه المضار المنطق الثنائي الذي هو منطق مفيد لصناعة أجهزة وآلات، ولكن ليس للحياة؛ هو منطق ممزّق للإنسان والمجتمع ووسيلة ناجعة للسيطرة عليهما.

نواحٍ أخرى في الرياضيات البحتة تدمّر الفكر والحياة تشمل ادّعاء العالمية بالنسبة لنتائجها ونظرياتها وتعاريفها، بينما في الواقع لا توجد أي كلمة أو ادعاء بمعنى عالمي. كذلك الحال بالنسبة لادعاء الرياضيات البحتة بأن البرهان الاستنتاجي هو أرقى أنواع البرهان، مما يخفي أنواعاً أخرى في موضوع البرهنة، موجودة عبر التاريخ وفي الحياة.

أي شيء في الحياة يُنْتَزَع من سياقه الطبيعي، ويُحَوَّل إلى حالة نقية بحتة، يصبح ضارّاً، بما في ذلك المعرفة والعلوم والدين والسياسة والسكّر والملح والمحبّة؛ إذا جرّدناها من سياقاتها الطبيعية تصبح مؤذية.

وينطبق هذا أيضاً على أمور مثل فيتامينات بحتة يحشرونها في حبوب ويدّعون أنها جيدة. ربما تكون مفيدة في بعض الأحيان، مثلاً في حالات لا تكون فيها متوفرة في مأكولات طبيعية في بيئة المُحتاج، لكن في الحالات الطبيعية من الأفضل أن تتوفر الفيتامينات في أطعمة حقيقية.

لذا فإن المطلوب في التعليم ليس تغيير المناهج بل تغيير إدراكنا للتعلم. التعلم في جوهره قدرة بيولوجية تتم ضمن أجواء حقيقية وظواهر طبيعية، وليس عن طريق "شَرذَمَةِ" المعرفة إلى مواد متفرقة، ثم لملمتها تحت عنوان مثل "متعدد الاختصاصات" Interdisciplinary.

تشبه هذه اللملمة لملمة أجزاء صحن مكسور، ومحاولة إعادة تكوينه. "تكسير" المعرفة إلى مواد متفرقة ثم محاولة لملمتها هو مسعى هدفه عدم تنمية قدرة الإنسان على رؤية الصورة الكليّة، وعلى ملاحظة العلاقات بين الظواهر المختلفة في الحياة. هي جريمة مقصودة هدفها ككل نواحي الأيديولوجيا المهيمنة: السيطرة على العقول وبالتالي على شتى نواحي الحياة.

تصوّروا مثلاً لو كان منهاج المرحلة الابتدائية (السنوات الست الأولى)، والذي يتراوح عدد المواد فيه بين ست مواد في الصف الأول و12 مادة في الصف السادس، لو كان يقتصر على موضوعين فقط: الطبيعة والثقافة، كان سيؤدي إلى ربط الأمور والفهم ورؤية الصورة الكلية في معرفة وحياة وفهم الشخص. سيتعلم الطفل كل المواد الحالية وغيرها ضمن سياق، وضمن فعل، وبشكل مترابط وضمن قيم تتوافق مع الحكمة، وبدون منافسة حول أمور سخيفة مثل العلامات. لذا عندما أسمع شخصاً يتساءل: ما هو البديل؟ أشعر بالشفقة.

البحث عن المنطق الخفي لما نراه ونعيشه من ظواهر، وملاحظة وجه الشبه بين ظواهر عدة، يشكّلان في رأيي جوهر الفكر الرياضي والرياضيات، ولكنهما مغيّبان. ما ذكرته أعلاه من ملاحظتي لوجه الشبه بين الرياضيات البحتة والسكر البحت يمثل قدرة رياضية. فالاثنان يُجَرَّدان من سياقهما الطبيعي.

لا أمل للبشرية من دون انتزاع أنفسنا من التعليم الرسمي بكل عيوبه وأوهامه وأمراضه وخرافاته، واستعادة التعلّم وفق الحكمة كقيمة جوهرية.


* كاتب وتربوي فلسطيني

دلالات

المساهمون