سرُّ "الجزيرة"
منذ شهور، دُعيت إلى التحدث، ومعي زملاء أفاضل، أمام واحدة من ندوات ملتقى المدافعين عن حرية الإعلام، الذي يعقده سنوياً، مركز حماية وحرية الصحافيين، في الأردن. وقد حدث، أن تصدرت "الجزيرة"، كالمعتاد، ما دار من جدل صاخب، بين المتحدثين وجمهرة الحضور، في حين انكفأت، وكالمعتاد أيضاً، العناوين التي كانت مطروحة أصلا، كمحاور للبحث، والنقاش.
استقلال "الجزيرة" عن سياسة قطر، بدا حينئذ، ولا يزال، من وجهة نظر خصومها، كأنه "كعب أخيل" الذي يمكن، من خلاله، كسر سمعة القناة القطرية، كما يسميها خصومها. وهو ما قلت في توضيحه، إن وسائل الإعلام، في بلادنا، كما في العالم كله، شرقاً وغرباً، ليست مجرد مشاريع خيرية، يقيمها أصحابها، ويأنفون عن الاستفادة منها. قطر، استفادت من "الجزيرة"، فعلاً، لأنها، ببساطة، لم تستخدمها بوقاً دعائياً، على طريقة الدول الشمولية، ولأنها وفرت لها هامشاً من الحرية، قد تتباين تقديراتنا لمدى سعته، فأقول، من واقع التجربة الشخصية، إنه يزيد كثيراً عن تسعين في المائة، وترونه بالكاد يصل إلى سبعين، أو ستين، أو ما شئتم، من النسب المئوية. لكننا لن نختلف على كونه الهامش الأكثر اتساعاً في وسائل الإعلام العربية، وعلى أنه سر نجاحها، وهو سر إخفاق مشاريع كثيرة حاولت تقليدها.
أتذكر ذلك الحوار، اليوم، في حين تنهي الجزيرة ثمانية عشر عاماً من عمرها، وتحتفل، كما في كل سنة، بذكرى ميلادها، من دون أن تلتفت كثيراً إلى الجدل الصاخب الذي ظل يرافقها، منذ النشأة الأولى، وطالما تأجج، مع تغطياتها لكل منعطف سياسي مرّت به منطقتنا، والعالم، بدءاً بعملية "ثعلب الصحراء" ضد العراق سنة 1998، مروراً بالانتفاضة الفلسطينية الثانية سنة 2000، وهجمات 11 سبتمبر 2001، وحرب أفغانستان في أواخر العام نفسه، وغزو العراق في 2003، وصولاً إلى الحروب الإسرائيلية على قطاع غزة، ثم ثورات الربيع العربي، وتفاعلاتها المتواصلة، منذ نحو أربع سنين.
بحور من الحبر سالت في مدح "الجزيرة" ونقدها. تغنى بها بعض النخب، وخَوّنها بعض آخر. قيل إنها مشروع ثوري تحرري، ملأ الفراغ الناجم عن تراجع قوى التغيير العربية، وقيل إنها أداة عميلة لإسرائيل، حيناً، ومنبر لتنظيم القاعدة حيناً آخر. اعتبرها نفر من الناس ملهمة ثورات الربيع العربي، ورد آخرون باتهامها بالمسؤولية عن إشاعة الفوضى.
وما بين أولئك وهؤلاء، ظلت غالبية الناطقين بالعربية تحرص على مشاهدتها، مصدراً للأخبار، والمعلومات، والآراء، لا مشروعاً ثورياً، ولا أداة استعمارية. صحيح أن علاقة ودية ما نشأت بين شاشتها وجمهورها، وصحيح أن عواطف فئات من الناس نحوها، تأثرت، ربما، بالانقسام العمودي الذي أصاب قوى المعارضة اليسارية والقومية والإسلامية، حيال الثورة السورية، وحيال حكم الإخوان المسلمين، ثم حيال انقلاب عبد الفتاح السيسي، في مصر، لكن الأهم، وهذا ما قلته، في الندوة إياها، رداً على القائلين بتراجع شعبية "الجزيرة"، إن هناك فرقاً بين الشعبية ونسب المشاهدة.
الأولى تفتقر لأدوات القياس، ويقوم الحديث في شأنها على تخمينات غير علمية. أما الثانية، فيمكن تحديدها، باستطلاعات الرأي التي تتولاها مؤسسات مستقلة، وفي وسع أي منبر الإعلامي أن يستدل عليها، استناداً إلى قدرته على استقطاب المريدين والكارهين، سواء بسواء. وهو أمر واقع، في شأن مشاهدة "الجزيرة"، ولا يستطيع إنكاره، حتى أشد خصومها عداوة.
تمضي "الجزيرة" إلى عامها التاسع عشر، وقد يتذكّر أبناؤها أو لا يتذكرون، أن الحملات ضدها، بلغت، مرة، حد الزعم بأن ضابطاً من جهاز الموساد الإسرائيلي، يتخذ من الطابق الخامس، في مبناها، مكتباً له. قيل ذلك، في حينه، من دون أن ينتبه قائلوه إلى أن مقرها يتكون من طابق أرضي واحد، لا ثاني له.. ولا خامس، طبعاً.