06 نوفمبر 2023
سحر الصحراء ومخيّم ألف ليلة
سحر الصحراء ومخيّم ألف ليلة

محمود الرحبي
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
مخيم ألف ليلة (موقع سبلة عُمان)
يقول أبو الطيب: حسن الحضارة مجلوبٌ بتطريةٍ/ وفي البداوة حسنٌ غير مجلوب.
حين تنوي التنزّه في صحراء الربع الخالي، في جانبها العُماني، فإنك ستصادف خيمةً تعيش فيها الأم سالمة مع زوجها وأحفادها. تبيع ما تصنع يداها للسيّاح الوافدين. معظمها صناعاتٌ منسوجةٌ بالخيوط الملوّنة. وإذا كنت تتأبّط رواية أو كتابا، فلن يفوتك اقتناء محدّد القراءة "مقص" صنع من خيوط ملوّنة.
الراحل عبد الله الحارثي، في ما يشبه "فتحا" للصحراء، ابتكر هناك مخيما أطلق عليه مخيم ألف ليلة. جلب إليه مختلف التقنيات، وأدخل حتى الفن في تصميمه، إذ أسهم في التصميم الفنان المغربي سعيد الزويتني. كما رصّعه بلوحات للمصوّر المغربي أحمد بن اسماعيل. وجلب له من مدينة صور العُمانية سفينةً متهالكةً، وأبرزها مثل لوحة مجسّمة في وسط الصحراء. إنها سفينة البحر المعطلة، في مكانٍ لا تتحرك فيه غير "سفن الصحراء" والسيارات رباعية الدفع. كما جلب من بادية الأردن بيوت الشعر. وعلى مدخل المخيم، وضع، في ما يشبه عبثا سورياليا، بابا خشبيا أثريا، لا يدخل ويخرج منه سوى الهواء والرمل، وسيارة "بيدفور" معطّلة رباعية الدفع. كان الرمل يغطّيها، حين تهجم عواصفه ثم تسفوها الرياح، حين تكون مسالمةً، وبلا رمل يرافقها. ومما زاد هذا المخيم أهميةً أن ملك السويد شاهده، ذات يوم، في منصّات السياحة عبر الإنترنت، فقرّر زيارته، ما عُدّ أمرا ذا شأن، أسهم في تقديم الحكومة مساعدات للمخيم لزيادة تطويره.
وكان الحارثي، حين يفد بعض الكتّاب إلى عُمان يدعوهم مجانا. وأتذكّر أني ذهبت مع الكاتب الفلسطيني المرحوم جهاد هديب والروائي العراقي صلاح عبد اللطيف، المقيم في ألمانيا. وقد دفعت المبادرة التي أطلقها الحارثي مستثمرين عديدين إلى إنشاء مخيمات سياحية، ولكن جلها بغرض تجاري بحت، يخلو من تلك البساطة الجمالية والعمق الفني الذي كان عليه مخيم ألف ليلة.
الصحراء التي أغرت الرحالة الإنكليزي، ويلفرد ثيسجر، صاحب كتاب "الرمال العربية" لقطعها مرتين، في أصعب الظروف وأقساها و"أقتلها"، ما عُدّ أهم مغامرات القرن العشرين، ولم يكن ليتسنّى له ذلك، لولا معاونة أهالي الصحراء بأسرارها والكاشفين متاهاتها. هذه الصحراء، المتحرّكة بالجمال والموت والعطش تخفي وتكشف سحرا يدعو السياح والمغامرين إلى اكتشافها. فهذه المخيمات لا تتعمّق كثيرا في دهاليز الصحراء، لكنها على الرغم من ذلك تمنح الزائر جرعةً مهمة من سحرها. ومن أراد التوغل، فما عليه سوى التعاقد مع البدو، الموزَّعين في الأرجاء، والذين يدبّرون أمر رحلة طويلة تستمر أياما في عمق الصحراء، شريطة أن يكتفي السائح بحمل ما قلّ وخفّ من زادٍ للطريق، ليعيش رحلةً بين الزهد والتأمل والصمت، برفقة البدو العارفين بأسرار لغتها الصامتة. ويعدّ الأوروبيون أبرز عشاق السياحة في هذه الصحراء، وهم يأتون من مختلف أصقاع المعمورة.
كما توجد في مخيم ألف ليلة مكتبة تستطيع أن تجد فيها أعمال غسان كنفاني القصصية والروائية، ولأنك في الصحراء فستقرأها كاملة. وفوق ذلك، تجد وقتا فائضا لكل شيء. الوقت طويل ولا نهائي في الصحراء، ولا يوجد ما "يقطع" الزمن بسهولة. وإذا كان لدى أحدهم مشروع كتابة وعزلة، فما عليه سوى الذهاب إلى الصحراء. كما أنها مفرشٌ وثيرٌ، حتى لمن لا يرغب أو ليس لديه المال الكافي لاستئجار خيمةٍ مجهزةٍ، يستطيع أن يفترش الصحراء في الليل، أو أن ينام في سيارته، أو أن ينصب مخيما بسيطا ويغلقه على نفسه من الداخل، ففي الصحراء، يمكن أن يتساوى الجميع، وإن اختلفوا في حدود معقولة لا تثير مشاعر الاستفزاز. كما يجب أن تخفّف هواء إطارات سيارتك قبل دخول الصحراء، في محلات لتصليح الإطارات تجدها في قرية المنترب، في مدخل "بحر الصحراء". ستمخر بعد ذلك عباب "الأمواج"، وستتأرجح سيارتك كأنها تلعب فرحة، وهي تغوص مبتعدة عن صخب وثقل حياة مصطنعة ومتعجّلة.
الراحل عبد الله الحارثي، في ما يشبه "فتحا" للصحراء، ابتكر هناك مخيما أطلق عليه مخيم ألف ليلة. جلب إليه مختلف التقنيات، وأدخل حتى الفن في تصميمه، إذ أسهم في التصميم الفنان المغربي سعيد الزويتني. كما رصّعه بلوحات للمصوّر المغربي أحمد بن اسماعيل. وجلب له من مدينة صور العُمانية سفينةً متهالكةً، وأبرزها مثل لوحة مجسّمة في وسط الصحراء. إنها سفينة البحر المعطلة، في مكانٍ لا تتحرك فيه غير "سفن الصحراء" والسيارات رباعية الدفع. كما جلب من بادية الأردن بيوت الشعر. وعلى مدخل المخيم، وضع، في ما يشبه عبثا سورياليا، بابا خشبيا أثريا، لا يدخل ويخرج منه سوى الهواء والرمل، وسيارة "بيدفور" معطّلة رباعية الدفع. كان الرمل يغطّيها، حين تهجم عواصفه ثم تسفوها الرياح، حين تكون مسالمةً، وبلا رمل يرافقها. ومما زاد هذا المخيم أهميةً أن ملك السويد شاهده، ذات يوم، في منصّات السياحة عبر الإنترنت، فقرّر زيارته، ما عُدّ أمرا ذا شأن، أسهم في تقديم الحكومة مساعدات للمخيم لزيادة تطويره.
وكان الحارثي، حين يفد بعض الكتّاب إلى عُمان يدعوهم مجانا. وأتذكّر أني ذهبت مع الكاتب الفلسطيني المرحوم جهاد هديب والروائي العراقي صلاح عبد اللطيف، المقيم في ألمانيا. وقد دفعت المبادرة التي أطلقها الحارثي مستثمرين عديدين إلى إنشاء مخيمات سياحية، ولكن جلها بغرض تجاري بحت، يخلو من تلك البساطة الجمالية والعمق الفني الذي كان عليه مخيم ألف ليلة.
الصحراء التي أغرت الرحالة الإنكليزي، ويلفرد ثيسجر، صاحب كتاب "الرمال العربية" لقطعها مرتين، في أصعب الظروف وأقساها و"أقتلها"، ما عُدّ أهم مغامرات القرن العشرين، ولم يكن ليتسنّى له ذلك، لولا معاونة أهالي الصحراء بأسرارها والكاشفين متاهاتها. هذه الصحراء، المتحرّكة بالجمال والموت والعطش تخفي وتكشف سحرا يدعو السياح والمغامرين إلى اكتشافها. فهذه المخيمات لا تتعمّق كثيرا في دهاليز الصحراء، لكنها على الرغم من ذلك تمنح الزائر جرعةً مهمة من سحرها. ومن أراد التوغل، فما عليه سوى التعاقد مع البدو، الموزَّعين في الأرجاء، والذين يدبّرون أمر رحلة طويلة تستمر أياما في عمق الصحراء، شريطة أن يكتفي السائح بحمل ما قلّ وخفّ من زادٍ للطريق، ليعيش رحلةً بين الزهد والتأمل والصمت، برفقة البدو العارفين بأسرار لغتها الصامتة. ويعدّ الأوروبيون أبرز عشاق السياحة في هذه الصحراء، وهم يأتون من مختلف أصقاع المعمورة.
كما توجد في مخيم ألف ليلة مكتبة تستطيع أن تجد فيها أعمال غسان كنفاني القصصية والروائية، ولأنك في الصحراء فستقرأها كاملة. وفوق ذلك، تجد وقتا فائضا لكل شيء. الوقت طويل ولا نهائي في الصحراء، ولا يوجد ما "يقطع" الزمن بسهولة. وإذا كان لدى أحدهم مشروع كتابة وعزلة، فما عليه سوى الذهاب إلى الصحراء. كما أنها مفرشٌ وثيرٌ، حتى لمن لا يرغب أو ليس لديه المال الكافي لاستئجار خيمةٍ مجهزةٍ، يستطيع أن يفترش الصحراء في الليل، أو أن ينام في سيارته، أو أن ينصب مخيما بسيطا ويغلقه على نفسه من الداخل، ففي الصحراء، يمكن أن يتساوى الجميع، وإن اختلفوا في حدود معقولة لا تثير مشاعر الاستفزاز. كما يجب أن تخفّف هواء إطارات سيارتك قبل دخول الصحراء، في محلات لتصليح الإطارات تجدها في قرية المنترب، في مدخل "بحر الصحراء". ستمخر بعد ذلك عباب "الأمواج"، وستتأرجح سيارتك كأنها تلعب فرحة، وهي تغوص مبتعدة عن صخب وثقل حياة مصطنعة ومتعجّلة.


محمود الرحبي
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
محمود الرحبي