سحرة طنجة الرحّل

سحرة طنجة الرحّل

23 مايو 2019
+ الخط -
في كتاب محمود عبد الغني، أو روايته كما عنونها هو "في الصيف والخريف فقط"، أو "معجم طنجة 2" عنوانا فرعيا، نرى ذلك الكاتب المسحور بالسيرة وظلالها، سيرة الوافد الأجنبي من كتّاب أوروبا وأميركا متنا لكتابة، وطنجة وغيومها وبحرها ومطاعمها وناسها وسوقها الداخلي هامشا، باستثناء الكاتب محمد شكري بالطبع، والحكاء المغربي محمد المرابط.
طنجة هي المسحورة بهم، وهي أيضا الساحرة التي أغوتهم جميعا من بعيد، فجاؤوا، ابتداء من بول بولز وزوجته جين مرورا بجان جينيه ووليام بروزو وتينيسي وليامز وخوان غويتسولو وبيكيت والسيدة الصينية التي عرفها بروزو على ظهر السفينة، ونزلت طنجة يومين بصحبة غريب، وهو وليام بروزو، يأتي وفي ثوبه حكاية من البحر، كي تبدأ الرواية بها، وتنتهي أيضا بها، فالحب قد صنع كتابا. ما سر طنجة؟ وما سر هؤلاء المسحورين بطنجة وبمحمد شكري، على الرغم من أي قطيعة صارت، فيما بعد، ما بينه وبين بول بولز، وقد صارت مادة دسمة لكتب، سواء من شكري أو بول بولز نفسه في حوار طويل؟ وما سر هذا الحكّاء الغريب الذي اسمه محمد المرابط الذي أحبه الجميع؟ ما هذه التربة التي أغوت هؤلاء كلهم، فعاش فيها بول بولز أغلب عمره، وأوصى جان جينيه أن يدفن فيها، فدفن في العرائش.
كيف يمسك الواحد بشخصية شكري مثلا، ذلك الذي في الكتابة ضرب عرض الحائط بكل شيء، من الأهل حتى قسوته على الأصدقاء، ونهشه الفقر كثيرا في طفولته وشبابه، ولكنه يبكي حينما يسمع المطربة المغربية لطيفة أمل، تغني: "شوفوا الحبيب سلّم فيا"، فيسأله جان جينيه حينما يرى دموعه: "ألهذا تبكي يا محمد؟ خلطة غريبة من القسوة والحنان، يصعب حتى على جان جينيه تصوّرها. هل كان الشراب سيد الحكاية والدمع، أم أشياء أخرى؟
يظل بول بولز، في مجمل الكتاب، عرّاب هؤلاء المسحورين، وسيد حكايتهم، سواء في الواقع، أو في "سماء واقية" أو "شاي في الصحراء"، أو في ألغاز جين بولز التي يقال إن موهبتها كانت كبيرة، ولكنها وقعت تحت سطوته والمرض، وأكلتها الغوايات الأخرى، ورحلت بأسرارها، فوهن بول بولز هو الآخر بعدما صار وحيدا، ويظل خوان غويتسولو عزيزا في مراكش.
ما سر محبة هؤلاء المسحورين الرحّل بطنجة وبحرها وصيدها وسمكها وأماكنها؟ يظل محمد شكري سنوات تتعثر معه الكتابة، بعد "الخبز الحافي"، حتى يتجاوز ذلك، ويكتب "زمن الأخطاء"، كي يخرج من محنته، ولكنه ينسى مخطوط الرواية في المشرب، ويعود إليه المخطوط عن طريق صديق له، ويتكشف لنا شكري في الرواية أو السيرة (طنجة 2)، عنيفا ومحبا أيضا، وقاسيا حتى مع الأحبة. قاسيا حتى على نفسه، هل لأن الكتابة قست عليه، ونسته سنوات، أم لأنه أراد أن يتخلص من تلك التهمة التي رماها عليه الخصوم، بأنه لن يكتب ثانيةً بعد "الخبز الحافي"، لأن أصابع بول بولز كانت واضحة في الكتاب؟ هل لذلك تأسست الخصومة وقويت؟ وقد صارت، في ما بعد، كتبا وحوارات اشترك فيها كل الخصوم والصحافة الدولية، حتى ماتت جين باولز؟ أم أن الأمر كان فقط من أجل الحقوق المادية لمحمد شكري؟
كما أن للمحبة أسرارها ودهاليزها، تظل أيضا للخصومة دهاليزها الشائكة والمبهمة، والتي بالطبع ليس أولها ولا آخرها الفلوس أو النساء. أما من ناحية أخرى، فيظل صيد محمود عبد الغني الثمين، سواء أكان يريد ذلك أو لم يكن يريده، ضيوف السيرة (طنجة 2)، لا هؤلاء المسحورين الرحّل.
ستظل شخصية الفتاة الصينية التي صادفها في البحر زهرة الكتاب وحكايته. وسيظل محمد المرابط، الصيّاد في الأصل، الحكّاء في ما بعد، والكاتب من خلال ترجمات بول بولز، وضيف المطعم الإسباني. هو حوت الرواية، وحوت الليلة تلك، وهو طاهي الحوت، وهو الثري بفيض حكاياته التي لم يمهله بول باولز لحكايتها، لأنه لو ترك لسحر الجميع، وكأن بول بولز ارتاح من وجوده يطبخ السمكة، وهو القائل لأصحابه: المرابط يطفئه السكْر، أما لو حكى فلن يسكته أحد. فهل كان محمد المرابط أكثر لطفا ولياقةً، حينما ترك رجلا مكلوما برحيل زوجته، وهو بول بولز، ما بين أصدقائه على مائدة الشراب، وتفرّغ هو لطبخ الحوت؟