ستيفان زفايغ في "عالم الأمس"

ستيفان زفايغ في "عالم الأمس"

22 يونيو 2020
+ الخط -
"عالم الأمس، مذكرات أوروبي" هو سيرة الكاتب النمساوي الشهير، ستيفان زفايغ، بمثل ما هو سيرة أوروبا التي عرفها ما بين 1895 و1941، العام الأخير الذي كتب فيه زفايغ ذكرياته، وأرسلها إلى ناشره قبل أن يُقدم على الانتحار في 23 فبراير/ شباط 1942. الكتاب الذي نُشر في السنة نفسها هو بمثابة وصيةٍ أخيرةٍ يروي الكاتب فيها قصة تدهور قارة بأكملها (انتحار أوروبا)، انهيار السلم العالميّ، وانكسار جيل بفعل الزلازل القوية التي تناوبت عليه، متمثّلة بالحربين العالميتين، الأولى والثانية، وبمجيء هتلر وصعوده. يقول: "لقد كنتُ شاهدا على أفظع هزيمة للعقل".
بداية، يروي زفايغ حنينه إلى "العصر الذهبي"، كما عاشه في أثناء العقود الأخيرة لحكم سلالة هابسبورغ، في فيينا، عاصمة الثقافة والموسيقى والجمال آنذاك، مع زمرةٍ من الأصدقاء الذين لمعت أسماؤهم لاحقا في مختلف المجالات، فالشاب الذي ولد في "مجتمع استقرار"، أي في عائلة يهودية بورجوازية، وفي أجواء تتميّز بالرخاء وبنزعة سياسية محافظة، سيكون شاهدا على مشاركة بلاده في الحرب العالمية الأولى، وما تلاها من إنهاك، وهزيمة ودمار وفوضى اقتصادية ومالية، وتنامي العداء للسامية، وانتشار الفاشية والتوسّع الهتلري، واستسلام الديمقراطيات الغربية،.. إلخ.
شابًا، درس زفايغ الفلسفة، وكان قد بدأ يكتب وينشر وتُلاقي أعمالُه رواجا وشهرة، إلا أن اكتشافه برلين، وما يروج فيها من أفكار جديدة، دفعه إلى مساءلة ذاته، منتهيا إلى ضرورة "البدء بسبر ما هو الأشد أهمية في العالم". هكذا باشر بترجمة بودلير، فرلين، وكايتز، وقام برحلات عديدة إلى أوروبا والهند وأميركا وأفريقيا. أيضا تصادق زفايغ مع معاصريه من أهمّ الكتّاب والفنّانين من أمثال بول فاليري، سيغموند فرويد، سلفادور دالي، رومان رولان، ريلكه، وكثر آخرين، واستمرّ منفتحا على العالم، متعطّشا إلى المعرفة شغوفا باكتشاف الثقافات خلال ما يناهز خمسين عاما. لكن، مع مجيء النازية، وهربه من أوروبا بسبب معاداة السامية والحرب، وإسقاط جنسيته، لجأ زفايغ إلى بريطانيا، قبل أن يستقرّ في النهاية، في البرازيل، تاركا خلفه كل شيء، باستثناء اسمه الذي كان يعرّف به أحدَ أكبر كتّاب عصره.
كلما تقدّم القارئ في مطالعة مذكرات زفايغ يشعر بالوهن الكبير واليأس الثقيل اللذين رزحا على روح كاتبٍ كان يعتبر نفسَه مواطنا في العالم، وذلك قبل رواج هذا المفهوم بعقود. "تسلّيني دائما دهشة الشبان حين أخبرهم أنني، قبل 1914، كنت أسافر إلى الهند وإلى الأميركيتين من دون امتلاك جواز سفر، ومن غير أن أرى حتى جوازا في حياتي. كنا نصعد القطار ونغادره من غير أن يسألك أحد شيئا، ولم نكن نملأ أيا من تلك الاستمارات والأوراق المطلوبة اليوم، إذ لم يكن هناك رُخصة، أو فيزا، أو إجراءات مزعجة (...)" و"بعد الحرب فقط، بدأت القومية الاشتراكية تقلب العالم، وأول ظهور لهذا الوباء الأخلاقي الخاص بقرننا، كان كره الآخر: الكراهية، أو على الأقل، الخوف من الآخر (...)، فكل الذلّ الذي اخترعناه قبلا للمجرمين فقط، بتنا نُنزله الآن بالمسافرين قبيل رحلتهم وخلالها".
قبل أن يُقدم زفايغ على الانتحار بيومين، كتب نحو 190 رسالة وداع وجّهها إلى أصدقائه يشرح لهم فيها قراره. لم يكن يومها على درايةٍ بمؤتمر "فانسي" الذي عُقد قبل شهر، وقررّ فيه كبار أعضاء الحزب النازي ومسؤولون من الحكومة الألمانية تنفيذ "الحل النهائي". ومع ذلك، تكفي قراءة سيرته لكي يفهم القارئ أن الكاتب النمساوي كان يحدس بأن الآتي عظيم، رافضا رفضا قاطعا أن يكون شاهدا عليه. بل لن يجد القارئ صعوبة في التماهي مع زفايغ، في أحيان كثيرة، إذ تنعدم المسافةُ، أحيانا كثيرة، بين "عالم الأمس" وعالمنا اليوم.

دلالات

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"