ستان غيتس... ساكسفون أبيض بين العمالقة السود

ستان غيتس... ساكسفون أبيض بين العمالقة السود

07 يونيو 2020
أميركي أبيضَ ناشط في مجال موسيقى السود (Getty)
+ الخط -
 
في خريف عام 1976، وعلى خشبة مسرح كارنيغي العريق في مدينة نيويورك الأميركية، بينما كان عازف كلارينيت الجاز وقائد الفرق الموسيقية وودي هرمان Woody Hermann (1913 - 1987)، يُجري تدريباً لحفل يحتفي بعيد ميلاده الأربعين، لمح واحداً ضمن مجموعة عازفي الساكسفون وهو شارد الذهن مشتّت الانتباه، فتسلل إلى حيث جلس، ثم باغته بأن نظر في عينيه ليسأله: "يا بنيّ، ماذا تريد أن تكون يوماً؟". أجاب العازف الشاب: "أرغب بأن أصبح ستان غيتس". رد المايسترو قائلاً: "ثق يا بنيّ، لن يكون هناك من ستان غيتس آخر".

بمجرّد أن يكون لقب أي موسيقيٍّ "الصوت" (The Sound) فيتماهى بجسم الموسيقى ومادة وجودها، لكفيلٌ وحده بأن يُعبر عن مكانة عازف ساكسفون الجاز ستان غيتس Stan Getz (1927 - 1991)، الذي تصادف في السادس من الشهر الجاري ذكرى رحيله، وقد مضت عليها قرابة العقدين. حاصلٌ على إحدى عشرة جائزة غرامي (Grammy) من بينها واحدة عن فئة أفضل ألبوم جاز لعام 1963 بعنوان Desafinado . أما عام 1986، فقد جرى تنصيبه في أرجاء قاعة "داون بيت للشهرة". (Down Beat Hall of Fame).

باسمه، ارتبطت أشكالٌ وألوان كـ الكوول جاز Cool Jazz إبان منتصف القرن الماضي، واللاتين جاز Latin Jazz خلال ستينيّاته؛ ذلك اللون المُطعّم بموسيقى أميركا الوسطى والجنوبية، وما يُعرف أيضاً بالبوسا نوفا Bossa Nova والذي أتى باكورة شراكة فنية، وغرامية، جمعته بالمغنية البرازيلية أسترود جيلبيرتو Astrud Gilberto إلى جانب من كان في حينها زوجها عازف الغيتار والملحن جواو جيلبرتو João Gilberto.

اشتهر غيتس بالمقطوعات الشاعرية الراقصة البالاد Ballad ذات الإيقاعات الرشيقة بطيئة إلى متوسطة السرعة. لعلّه وجد فيها مناخاً موسيقياً مناسباً لاستعراض أكثر ما ميّزه؛ ذلك الصوت النسيمي الواسع والوادع، الهادئ والهامس والممتد والمُحلّى بصفير الهواء. أسلوبٌ استقاه من معينِ مُعلّمه ومثله الأعلى أسطورة الساكسفون ليستر يونغ (1909 - 1959) Lester Young.

علاوة على الصوت، مثلّت البساطة، بوصفها قيمة جمالية خالصة، الملمح الآخر لمنتوج غيتس الفنيّ، سواءً لجهة لحنية الجمل وغنائيتها، أو لجهة نظم الارتجالات والحواريّات النغمية بين أعضاء الفرقة الواحدة. عازف آلة الفايبروفون الإيقاعية غاري بارتون Gary Barton، الذي عمِل مع غيتس فترةَ الستينيّات، كان قد تحدّث عن الأخير قائلاً: "لعل أثمن ما تعلمته من السيد غيتس كان العزف ببساطة. فهو إن ارتجل، فعل ذلك ببساطة. بينما كنت أرتجلُ بأعقد الوسائل، كان هو يأسر قلوب السامعين ببساطة ما يُؤديه. قد لزِمَتني سنينٌ ثلاثة كاملة، عملنا خلالها معاً، كي أكتشف مدى العمق الممكن إدراكه في الموسيقى".

كان ستان غيتس، أيضاً، أميركياً أبيضَ البشرة وقد نشط في مجال موسيقي حيوي لذوي البشرة السوداء، وتَمثّل في ميدان ثقافي يُعبّر في الأساس عن الهوية الفنية الأفرو-أميركية. بالرغم من ذلك، نال احترام زملائه وأقرانه السود. ما حدا بعملاق الترومبيت ديزي غيليسبي Dizzy Gillesspie (1917 - 1993)، أن صرّح مرّة أنه يعشق ستان غيتس.

كان غيليسبي قد أضاف أنه: "يُحب غيتس لألحانه"، ليكشف استطراده هذا عن أحد التنميطات الفنية التي بها وبفضلها، تمكّن عازفو الجاز من البيض الأميركيين، وبعض الأوروبيين، من ولوج المشهد الموسيقي للجاز في مراحله المُبكّرة. حين كان لا يزال شكلاً فنيّاً أفرو-أميركياً أصيلاً يعتمد السخونة الإيقاعية. ولم يتعولم كلياً بعد ليُعلَن "بوتقة موسيقية" تصهر الهويّات المحلية والكونية بالتزامن مع صعود الولايات المُتحدة قطباً ثقافياً على الساحة الدولية، رافعةً، شأنها شأن كل الإمبراطوريات حين تستعد للهيمنة، من على يافطة الجاز، شعار العالمية.

تلك الهوية الأفرو- أميركية المُغلقة وقتها، لم تأت بتأثيرٍ من الموسيقيين السود بالضرورة، وإنما بتأصيلٍ من سياقات التمييز والاضطهاد العنصري المُمنهج التي عانوها على مرّ الأجيال. بل على العكس، فأصول الجاز وإن تعود إلى أهازيج الزنوج من العبيد حين حرثوا وحصدوا حقول الجنوب الأميركي، إلا أنها في الواقع كانت خليطاً حتّمه التنوع الثقافي لمُجتمع المستوطنين الأميركيين الأوائل في مدينة نيو أورلينز الجنوبية (مسقط رأس الجاز) وعلى حوض نهر الميسيسبي، حيث رفدت الجاز الترانيم الكنسية البروتستانتية القادمة مع الوافدين الألمان والهولنديين، إضافة إلى الأغاني الشعبية الإنكليزية، والرقصات الأفرو-إسبانية والمارشات العسكرية الفرنسية.

الذي جعل من الجاز إذاً فنّاً أسودَ البشرة، حصراً بالسود ثم حِكراً عليهم، هو نظام الفصل العنصري وتحولاته التاريخية وتمظهراته السياسية والاجتماعية التي لا يزال صداها يتناهى إلى اليوم. ففي أوائل القرن الماضي، اختُزل الجاز كرمزٍ ثقافيٍ للوحشية والبدائية Primitivism التي أخذت تنتشر في المجتمعات الكولونيالية آنذاك. مُنع تدريسه في المدارس الموسيقية، ووجّهت إلى مزاوليه ومُستمعيه الانتقادات المهينة، في سعيٍّ ثقافوي إلى حيونته ونزع صفة الإبداع الإنسانية عنه.

في العشرينيّات، لم يُسمح للسود بالعزف أمام البيض إلا إذا طلوا وجوههم بما يُبيّضٍ بشرتهم. عازفون كبار، كـ ديوك إلنغتون Duke Ellington 1899-1974، أيامَ بدايات جولاتهم الفنية، أمضوا الليالي في الحظائر وعربات القطار بعد رفض الفنادق إيواءهم.

في عقد الأربعينيات، دخل بيض البشرة عالم الجاز وإن من باب عالٍ كمُنتجين ومديري فرق، ومع هذا، تعرضوا للقدح والقذع المستمرين. آرتي شو Artie Shaw 1910-2004 حين كان مدير فرقة سنة 1941، عَيّن عازفَ ترومبيت أسود خلال جولة في الجنوب الأميركي، فاشتُرط عليه أن يُبعد ذلك العازف مسافة 15 متراً عن بقية الأعضاء. ما كان من شو إلا أن ألغى الجولة احتجاجاً على العنصرية الفاضحة. كان شو أيضاً أول من عرّف الجمهور الأميركي من البيض على أيقونة غناء الجاز بيلي هوليدي Billie Holiday 1915-1959 ولئن سمح بعض مدراء المسارح لهوليدي بالغناء أمام جمهور أبيض، بالرغم من استياء عديد النقاد، فقد أمكنها ذلك فقط كرمى لونِ بشرتها الفاتح نسبياً.

مع تهاون نظام الفصل العنصري وانحسار مظاهره الأكثر تطرفا، أخذ جيلٌ من الموسيقيين البيض الأميركيين يتصدر مشهد موسيقى الجاز، التي راحت بدورها تتبلور بوصفها الشكل الفني المُعبر عن الهوية الأميركية بطيفها الواسع العريض. كان ستان غيتس، إلى جانب موسيقيين آخرين، كعازفيّ البيانو ديف بروبك Dave Brubeck 1920-2012 وبيل إيفانز Bill Evans 1929-1980، من تلك الوجوه اللامعة التي جسّدت بحضورها مرحلة الاستيعاب العرقي الأفقي الجديدة.

نُسب طراز الـ كوول جاز إلى غيتس، وحُسِب على بروبك من بعده، وحُمِل عليه من قبل النُقاد والموسيقيين السود أنه كان بمثابة "مُبيّضٍ" للجاز. وبما أن تهمة الاستيلاء الثقافي Cultural Appropriation لا تثبت عادةً على العرق السيّد أو الثقافة السائدة، فقد أدخل الموسيقيون البيض مُفردات جديدة أثْرت لغة الجاز السمعية، كالانسجامات الرومانسية والحداثية للموسيقى الكلاسيكية، فبرز لونٌ عُرف بالتراد-جاز Trad-Jazz (من تراديشنال، أي تقليدي نسبةً إلى الموسيقى الكلاسيكية الغربية)، انتشر بين البيض من الطبقة الوسطى موسيقيين ومستمعين، ونشر الجاز بينهم في أميركا الشمالية والمملكة المتحدة.

جعل "الاستيلاء الثقافي"، الحلال دوماً على الأوروبي الأبيض والحرام أبداً على غيره، من غيتس "وزملاء بشرته" يبدون كما لو أنهم عَولموا الجاز ورفعوا من قيمته الفنية وحتى منزلته الاجتماعية. وإن ظلت إسهاماتهم ماثلة حقيقية وواضحة جلية، فقد تلقفتهم مؤسسات الإعلام الأميركية ومرافقها النقدية بتسليط شديد الضوء عليهم وإضفاء مزيد التعظيم على دورهم والتثمين البالغ من جهدهم، لينالوا على عجالة جميع صفات الصدارة وألقاب الريادة والقيادة. هكذا، صار أحدهم كـ (Paul Whiteman 1899-1967) ملكاً للجاز وآخر (Benny Goodman 1909-1989) ملكاً للسوينغ.

وبينما كان عَلَم الجاز، عازف الترومبيت الأشهر الأفرو- أميركي مايلز ديفيس Miles Davis 1926-1991 مسحوراً بعوالم انسجامات وائتلافات ألحان الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية التي أضاءها له عازف البيانو في فرقته، الأبيض بيل إيفانز، عندما حضّه على الاستماع إلى موسيقى رخمانينوف ورافيل. في المقابل، استُبعد هيربي هنكوك Herbie Hancock لما كان لا يزال صغيراً يافعاً إثر فوزه بالجائزة الأولى في مسابقة عزفٍ على البيانو، من أداء كونشرتو بيانو كلاسيكي لموتزارت برفقة أوركسترا شيكاغو السيمفونية، بسبب لون بشرته الأسود.

يروى أنه في عام 1954 دخل، ملك الجاز الحقيقي، ديوك إلنغتون على صديقه ديف بروبيك حانقاً، متأبطاً عدد مجلة التايم Time وعليها صورة بروبك، أبيض البشرة، كأول موسيقي جاز يتصدّر الغلاف. إلنغتون، الأسود، كان قد تعرض للاستبعاد من قائمة جائزة بوليتزر بعد ترشيحه عام 1965.

أما إبان عقد السبعينيّات، على اعتباره موسمَ حصاد حركة الحقوق المدنية ضد التمييز العنصري، استضاف الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر كلاً من ديزي غيليسبي وستان غيتس معاً في البيت الأبيض. في بداية اللقاء، استهلّ كارتر الحديث بأن سأل غيتس عن أصول الجاز التاريخية، فيما غيليسبي، ذو الأصول الأفريقية، يجلس مُتفرّجاً مُستمعاً، كما لو لم تكن له في الجاز يوماً ناقةٌ ولا جمل.

المساهمون