ساري حنفي: كورونا شبيه بـ"العنف المعلّق" عند حواجز الاحتلال

ساري حنفي: كورونا شبيه بـ"العنف المعلّق" عند حواجز الاحتلال

21 يونيو 2020
سعيد بثقة الناس في العلم (حسين بيضون)
+ الخط -

كورونا ليست حالة طبية فحسب، بل ظاهرة اجتماعية واقتصادية وسياسية، تؤثر في السلوك والعلاقات، وهو ما يتحدث عنه رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع، الدكتور ساري حنفي، في مقابلة مع "العربي الجديد" عبر الهاتف والبريد الإلكتروني وتطبيقات الاتصالات.
1- إلى أيّ مدى يمكن اعتبار جائحة كورونا ظاهرة اجتماعية؟

كما قرأ رولان بارت رواية "الطاعون" لألبير كامو، باعتبارها معركة المقاومة الأوروبية ضد النازية، علينا قراءة أزمة كورونا على أنّها اختبار إنساني وجودي كاستعارة على المستويات السياسية، والاجتماعية والأخلاقية. كوفيد-19 مرض العولمة والأنثروبوسين (التدخل المتعاظم للإنسان في النظام الطبيعي)، وهو حلقة من حلقات التدمير التي يقوم بها الإنسان في حق بيئته وكوكبه. عرف منذ فترة، أنّ موطن هذا الفيروس المستجد هو بعض الحيوانات الصغيرة غير المستأنسة (مثل قط الزباد، والبنغول أو آكل النمل الحرشفي، والخفافيش)، التي يبقيها الصينيون في منازلهم، وتقدّم كوجبات فاخرة لإظهار التميز الاجتماعي، كما تستخدم أيضا كعقارات طبية وعلاجات سحرية لبعض الحالات المستعصية، إذ اعتقد قدماؤنا أنّ لجميع السموم فضائل، فهي داء ودواء. هذه المعتقدات لا تنحصر بالصينيين، ولا يجب تحميلهم مسؤولية انتشار الفيروس.

المسألة مشاركتنا جميعاً في تدمير بيئتنا بسبب الجشع، إذ نأكل كثيراً، ونسعى إلى جمع كثير من المال، ولا نكتفي بما لدينا بل نريد المزيد دائماً؛ مزيد من السفر (إذ أصبحت الإجازة تعني السفر حصرياً) والملابس الفاخرة، وأحدث الصرعات والماركات، وأحدث الهواتف المحمولة. لذلك، سمحت الرأسمالية الريعية والجشعة والعولمة بتحقيق ثروات كبيرة لحفنة من رجال الأعمال في مدننا وذلك في وقت قصير جداً. وقامت الطبقة الوسطى الجديدة والطبقة الوسطى الدنيا الجديدة باستنساخ هذا الجشع وإن على مستويات أقل لعدم قدرتها على التقليد الكامل. هي محاولات أسطورية للوصول إلى السعادة، في ظل "معدلات النمو" المستمرة كما لو أنّ الموارد لا نهاية لها. لكنّ هذه النمطية لا تؤدي إلا إلى المزيد من المشاكل الصحية والأوبئة والموت والكوارث الطبيعية: إنّ التخمة عدو للشهوة. ويشدد الفيلسوف اللبناني مشير باسيل عون، على حق الدهاء الاقتصادي المعولم الذي يتقن فن النفاذ إلى باطن الوعي الإنساني المعاصر يخرب فيه مباني الرغبة السليمة. ويسترجع عون الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913- 2005) الذي اعتبر أنّ "اللذة المتخيّلة تسمّى رغبة". الرغبة إذاً، قد تعني التخيل والتوهم، وتعبر عن جزء لا عقلاني ولا شعوري من النفس، وهنا تستطيع مخططات الاقتصاد الاستهلاكي أن تنسلّ إلى مباني الوعي الباطني لكي تنقضّ على مخيلة الإنسان الراغب، فتزين له الواقع المشتهى بأبهى الصور والرسوم.

2- على الصعيد الشخصي، كيف كانت تجربتك مع الحجر المنزلي؟

بداية، دعوني أقول إنّني في هذا الوقت المظلم الحاصل نتيجة وباء كورونا أتذكر الساعات الطويلة التي كنت أقضيها أمام نقاط التفتيش الإسرائيلية، علماً بأنّي عشت في فلسطين حيث كنت أتنقل بين منزلي في القدس وعملي في رام الله ما بين عامي 2000 و2004 أثناء سنوات الانتفاضة الثانية. في ذلك الوقت، كان الانتظار يستمر ما بين 10 دقائق وساعة أو ساعتين أو ثلاث ساعات، وحتى يحتمل عدم السماح لك بالدخول أو الخروج، كما تشعر بأنّ غيرك هو من يتحكم في وقتك. وقد أسميت ذلك بـ"العنف المعلق (Suspended Violence)" أي أنّك لا تتمكن من معرفة متى يبدأ أو ينتهي. فوباء كورونا المنتشر حالياً يعني عدم وجود قاعدة، إذ لا يعرف أحد منا نهاية هذا الحظر، وكيف سيتطور هذا المرض؟ ففي البارحة سمعنا وأُخبرنا بأنّ من تعافوا من المرض قد لا يسلمون من عودته مرة أخرى، بل قد يعود إليهم. وفي حين كان اعتقادنا أنّ المتعافين قد تعافوا من المرض إلى الأبد. كنت قد كتبت عن الصراع العربي مع المشروع الكولونيالي الإسرائيلي معتبراً أنّه لم تكن هناك إبادة جماعية (Genocide) وإنما إبادة أو تطهير مكاني (Spacio-cide) وشعرت أنّ هذا المشروع هو إبادة أو تطهير زمني (Chrono-cide). وهكذا اليوم ما أشعر به هنا: فنحن في اضطراب، وبمعدلات غير مسبوقة، كيف نتناول طعامنا؟ وكيف نذهب إلى العمل؟ وكيف يمكننا التسوق؟ كيف ندبر صحتنا، والاختلاط، وقضاء أوقاتنا، وسفرنا، وغير ذلك؟

3- ما هي تأثيرات أخبار كورونا على السلوك الفردي والعلاقات ما بين الأفراد، لا سيما في الوطن العربي، بما لاحظتموه، وكذلك تأثيرات إجراءات مكافحة كورونا، من حجر صحي وحظر تجول وكمامات وتعقيم وغيرها؟

أزمة كورونا فرضت على الجميع التعايش وفق أسلوب "التباعد الاجتماعي": لا زيارات، لا سلام باليد، ولا تقبيل. وإن كان التباعد والحجر يشملان الجميع فإنّ أثرهما مختلف من فئة لأخرى. أفكر بشكل أساسي بأولئك الذين باتوا عاطلين من العمل. وأفكر في الأطفال الذين حرموا من اللعب خارج منزلهم ومن حضور الدروس في المدرسة. ابنتي التي شكت طويلاً من مدرستها تحنّ إليها الآن بدموع غزيرة. أفكر في العمال الأجانب الذين يعيشون في غرف ضيقة جداً. دعني أركز هنا على أثر الكمامة. ففي نقاش مع كاتبة بيّنتْ أنّ "الكمامة تظهر إمكانيات التواصل الاجتماعي" وتساءلت "لماذا منعت أوروبا النقاب؟" كان جوابي لها أنّني لست مع منع الدولة لأيّ لباس (إلا لأسباب أمنية حقيقية)، لكن، أرى عكس استنتاجها، أي المدى الذي يمنع فيه النقاب، كما الكمامة، التواصل وتعبيراته، وبشكل عام هذا هو أهم إشكال للتدريس عن بعد ومدى منعه ذلك التواصل وتعبيراته. شعرت باغتراب شديد من تعليم طلابي عن بعد، فتعبيرات الوجه ضرورية لمعرفة مدى الفهم أو الشعور بالرضا أو الاستهجان لفكرة تقولها. ومع الكمامة، لا يوجد حتى دليل على فهم الطلاب ومتابعتهم لما أقول. في كلّ حال، إشكاليات التواصل تتجاوز كورونا، فهذه حالة قصوى من مشكلة فاقمتها حداثتنا المتأخرة من برودة العلاقات الإنسانية وسلعنتها وتشييئها. لكنّ اختفاء التواصل الجسدي المباشر لم يمنع اكتشاف أشكال جديدة من التواصل الاجتماعي تعزز الروابط الاجتماعية. تقول سعاد الحكيم، أستاذة الفلسفة والتصوف في "الجامعة اللبنانية" إنّ القلوب أيضاً تتواصل من دون أن تعيقها مسافات أو ترهبها إجراءات صحية أو وقائية. ومحنة كورونا من الممكن أن تفتح آفاقاً واسعة للإنسان. فالخلوة التي فرضتها تحرره كثيراً من الانشغالات، وربما تكون لحظة إعادة الوعي بذاته.



4- ما هو تقييمكم لاستجابة المواطنين العرب للخبر العلمي المتعلق بوباء كورونا؟

بشكل عام، شعرت باحترام الناس للخبر العلمي. لقد أظهرت الأبحاث الطبية أهميتها، لكن، في الوقت نفسه، حدودها، بعيداً عن عقلانية يقينية. شهد الناس أهمية العلم بمشهدية أقرب لحلقات المسلسلات الدرامية حيث يسود الشك (Suspense). كان آخرها مقالة في المجلة العلمية الطبية المرموقة "لانسيت" نشرها علماء في 22 مايو/ أيار الماضي، حول خطورة استخدام عقار "هيدروكسي كلوروكين" ثم توصية منظمة الصحة العالمية بعدم استعماله في اليوم التالي. وفي اليوم الثالث تراجعت "لانسيت" عن المقال ليعود إلى العقار الوهج السابق في علاج الإصابة بالفيروس. وهكذا يتم التعامل مع هذا الدواء بانتظار دواء ثانٍ. وبانتظار ذلك، يلجأ البعض لرجاء الله ودعواته ولبعض الوصفات من وسائل الإعلام الاجتماعية وغير ذلك. وكما بين لنا كثير من دراسات أنثروبولوجيا وسوسيولوجيا الطب، عاش الإنسان بالتعامل مع معارف ذات مصادر مختلفة. إذ إنّ من غير الصحيح، كما ادعى بعض الوضعيين، أنّ العلم جاء ليستبدل معرفة الأجيال السابقة من عرف ودين وثقافة. والسؤال عندما تدخل هذه المعارف في تناقض كيف سيتصرف المرء؟ وهنا دور الجماعة العلمية بدفع معرفتها. أنا مسرور بشكل عام من ثقة الناس في العلم.

5- وماذا عن استجابة المواطنين العرب للتدابير الحكومية الخاصة بمكافحة كورونا، خصوصاً أنّ مواطنين كثراً التزموا بالتوجيهات الحكومية على هذا المستوى لكنًهم يعارضون الحكومات والأنظمة في شؤون أخرى مختلفة، كالسياسية والاقتصادية والحقوقية؟

لقد استخدمت السلطة السياسية الخبر العلمي لتسهيل اتخاذ قرارات السياسات العامة. هذا يحصل عندما تكون الرهانات حاسمة مثل جائحة كوفيد-19. لكن، مع الأسف في قضايا أقل أهمية أو التي تتعلق بالأمور الاجتماعية، فإنّ البحث العلمي نادراً ما يستعمل في السياسات العامة أو في توعية الناس. ولا بدّ من ذكر أنّ هناك تطوراً نوعياً في الفترة الأخيرة بفضل دور المجتمع المدني بإنتاج العلم ونشره. لكن يبقى السؤال الكبير كيف ستتعامل هذه الأنظمة مع نتائج كورونا خصوصاً الاقتصادية. هنا أمامنا سيناريوهات عدة. يجب أن نقوم بإعداد علماء لمرحلة ما بعد الوباء من جانب الأكاديميين، وكذلك جميع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني وصانعي السياسات العامة، من أجل تحويل هذه المأساة إلى إمكانات خلاقة. لنتذكر، أنّه كان للكساد العظيم في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي تأثير عميق في جميع أنحاء العالم، وكانت الاستجابات السياسية للأزمات مختلفة جذرياً. لنأخذ الولايات المتحدة و"الصفقة الجديدة" التي اقترحها الرئيس فرانكلين روزفلت بين عامي 1933 و1939 مثلاً. كانت الصفقة عبارة عن سلسلة من البرامج، ومشاريع الأشغال العامة، والإصلاحات المالية، وإصلاح قوانين العمل، وإصلاح العلاقات بين الإثنيات. على النقيض، كانت ألمانيا، في ردها، تستبدل الديمقراطية بالنظام النازي. يذكّرنا ميشيل فيفيوركا، في مقابلة أجريت معه في مارس/ آذار الماضي مع صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية، أنّه في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أنشأت المقاومة الفرنسية في عام 1944 برنامج عمل للمقاومة وأسموه "الأيام السعيدة". من الضروري أن نقول إنّه لم يكن هناك فقط بعض التدابير السياسية لاستعادة الديمقراطية، لكنّ التدابير الاقتصادية الراديكالية تميزت بتأميم الإقطاع الاقتصادي والمالي المهيمن على نطاق واسع من إدارة الاقتصاد، وبالطبع بعض التدابير الاجتماعية، ولا سيما تعديل الرواتب أكثر فأكثر، وإعادة تأسيس نقابات العمال المستقلة ومجموعة عمل المندوبين، وخطة شاملة للضمان الاجتماعي. كانت السنوات الثلاثون التالية فعلاً السنين السمان، أي كانت أياماً سعيدة حقاً لفرنسا. وبالتالي، علينا أن نقرر في أيّ اتجاه سنذهب، وما شكل نمط حياتنا لما بعد كورونا. التخطيط مهم جداً لكن يجب تعبئة جميع الموجهين الأخلاقيين لبناء الاعتراف والحظوة المجتمعية لا على مستوى النجومية والنزعة الاستهلاكية التمييزية والتنافسية، بل على مستوى تضحية الفرد من أجل الجماعة واجتهاده في خدمتها.



6- ماذا بعد انتهاء الإغلاق؟ هل التبدل السلوكي الذي شهدناه سيستمر بما في ذلك من عادات جديدة لم تكن سائدة سابقاً بعد زوال خطر كورونا، في حال تم ذلك؟ هل سيمتد التبدل في السلوك والعادات إلى مستوى العادات الدينية والاجتماعية الراسخة مثلاً، كالصلوات الجماعية ومواسم الحج وطقوس الأعياد والمناسبات؟

فرضت جائحة كوفيد-19 فعلاً تغيرات في السلوك والعادات. لكنّ اختلاف شكل الطقوس الدينية لا يعني بالضرورة ضعفاً في التدين. لكن هل سيضعف هذا المؤسسة الدينية المنظمة للصلوات الجماعية ومواسم الحج؟ يمكن أن يكون ذلك صحيحاً على المدى القريب لكن ليس البعيد. هل ستساهم هذه الحالة القصوى من التباعد الاجتماعي في تفاقم مشكلات حداثتنا المتأخرة من برودة العلاقات الإنسانية وسلعنتها وتشييئها؟ أيضاً لا أعتقد ذلك. إنّ اختفاء التواصل الجسدي المباشر لم يمنع من اكتشاف أشكال جديدة من التواصل الاجتماعي تعزز الروابط الاجتماعية (راجع ما اقتبسناه عن سعاد الحكيم).

7- ما هي قراءتكم للتفاعل الجماهيري مع نظريات المؤامرة التي ظهرت حول كورونا؟

لقد استطاعت هذه الأزمة أن تظهر أهمية العلم والعلماء والأطباء، وتطرح أسئلة على بعض المؤثرين الافتراضيين وعلى سلوك "التتفيه" الذي أصبح رائجاً عبر وسائل التواصل الاجتماعي. لأول مرة شعر الجميع بتداخل العلوم لمواجهة محنة مرضية من خلال طرح تناول العلمي والنفسي والأخلاقي. لكنّ هذا لم يمنع من نشاط نظريات المؤامرة. بوجه عام، تنشط نظريات المؤامرة في حالتين، الحالة الأولى عندما نشعر بالعجز في مواجهة الواقع ولا نعرف كيف نفسر شيئاً ما بشكل علمي، أو لا نريد الاعتراف بدورنا في أمر سيئ مثل الهزيمة في معركة ما. وفي الحالة الثانية عندما نصنف فئة من الناس بماهيات حادة تجعل منها عدواً مطلقاً أو خائناً أو مقابل طرف ثانٍ هو الضحية المطلقة التي تؤدي دور المظلومية. أما في حالة فيروس كورونا فقد نشط الوصم (الأحكام المسبقة النمطية) من دون الاحتكام للنسبية الثقافية، وجرى تحميل كامل المسؤولية إلى طرف واحد، مثل ادعاء أنّ كورونا سلاح بيولوجي أميركي لشنّ حرب اقتصادية على الصين، أو اعتبار بعض المسلمين أنّ هذا الفيروس لن يصيبهم طالما هم في مقام من مقامات أوليائهم، أو اعتبار بعض المسؤولين اللبنانيين أنّ اللاجئين السوريين هم بؤرة لانتشار المرض. رواج الأخبار الزائفة عمّق ونشر نظرية المؤامرة. ولسوء الحظ أدت بعض وسائل الإعلام الاجتماعية دوراً كبيراً في ترويج كثير من الأحكام النمطية وخلق حالة من الهلع الجماعي، إذ لم تعد هندسة الجهل حكراً على أنظمة الاستبداد الفاشلة، إنّما أصبحت تشمل المجموعات التي تتغذى على فكرة المؤامرة. نظريات المؤامرة في حال انتشار الأمراض ليست ظاهرة حديثة، إذا تذكرنا ما حصل في القرن الخامس عشر من مذابح ضد تجمعات يهودية بأوروبا عندما ظهر مرض "الموت الأسود" الذي سيعرف في ما بعد أنّه الطاعون، إذ حصل إقصاء خطير جوهري للطرف الآخر باعتباره سبب انتشار هذا الفيروس.



8- اطلعنا على دعوات أخيرة إلى تعزيز حضور العلوم الاجتماعية، وبعض العلوم الإنسانية، داخل حقول أكاديمية أخرى، لقدرتها على تفسير الظواهر المرتبطة بالأزمات، وتقديم الحلول اللازمة، فهل تتفقون مع هذه الدعوات؟ وماذا تقترحون في هذا الشأن؟

نعم هذا الوباء هو بكلّ معنى الكلمة ظاهرة كلية ذات أبعاد طبية، واجتماعية، واقتصادية وسياسية. لذلك، لا بدّ من تعبئة كلّ هذه العلوم بطريقة تتداخل فيها فرق البحث. لكنّ الرهان الكبير هو كيفية حلّ إشكاليات عدم توازن العلاقة بين الفرد والمجتمع والطبيعة، وانفصال الاقتصادي عن المجتمع. إنّ إعادة انغراس الاقتصادي في الاجتماعي والسياسي والثقافي لن يكون من دون ربط العلوم الاجتماعية بالفلسفة الأخلاقية، بالطريقة التي اقترحها بول ريكور بمقولة شديدة التكثيف: "هدفنا هو عيش الحياة الجيدة مع الآخرين ومن أجلهم في مؤسسات عادلة". أي إنّ ربط فكرة العيش الكريم والأخلاقي مع الآخر لا يمكن أن يكون فردياً ومن دون إشراك الجماعة والمجتمع، ومن دون العيش من أجل الآخر، من خلال تبني أخلاقيات الحب والتضامن والضيافة والعطف مع الآخر، خصوصاً عندما يكون الآخر مهمشاً. وبدأ الوطن العربي يؤسس لفلسفة أصيلة في هذا المضمار، ولعلّ أهم أصحاب هذا الاتجاه ناصيف نصار وعزمي بشارة وطه عبد الرحمن.

9- كيف تم هذا الربط من خلال هؤلاء المفكرين؟

ناصيف نصار ربط في كتابه "باب الحرية" بين الحرية والعدالة الاجتماعية، واعتبر المسؤولية هي الوجه الآخر للحرية: فالمسؤولية تتجاوز مسؤولية الفرد أمام نفسه أو أمام القانون، إنّها المسؤولية الاجتماعية التي تنبثق من الوجود الاجتماعي نفسه (مسؤولية أمام نفسه والآخرين). وقد نظّر لليبرالية التكافلية القائمة على العدالة التضامنية، فهو من دعاة التضامن الاجتماعي الذي يفرض التوفيق بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة. وهو يؤسس الذات على "الوجود بالمعية" انطلاقاً من معنى العيش مع الآخر لفهم الذات المتكونة. وهو بالتالي، ينتقد الديالكتيك الهيغلي الذي يقوم على السلب والنفي والتضاد الذي أثبتت التطورات بطلانه وطغيانه مؤسساً لمنطق الاختلاف الذي يقوم على الغيرية، والحق في التعدد، وهو الذي يحرر الفكر من كلّ نظرة معيارية لوغوقراطية (التسلط كلامياً). أما عزمي بشارة فيجادل في كتابه "مقالة في الحرية" بأنّ الحرية اجتماعية، وتتطلب التحقق في المؤسسات الاجتماعية لكن من دون أن تتنازل عن حرية الفرد، كما يؤكد ربطها بالديمقراطية أيضاً. أما طه عبد الرحمن فإنّ تأكيده موجه على العدالة الائتمانية الكونية، فهي محاولات جيدة لبناء صورة الآخر، ليس فقط في ما يتعلق بمن ينظر إليه على أنّه خصم، لكن في ما يتعلق بكيفية اهتمامنا ورعايتنا للآخر. هنا يمكن للمناقشة الأخلاقية الجادة أن تروّض السعي لتحقيق مصلحتنا الذاتية. وتتماشى هذه المقاربات العربية مع اتجاه فرانكوفوني، أصبح في ما بعد عالميّاً، مناهضاً للنزعة النفعية، والذي تمأسس بالمدرسة "التآلفية". أنا أنادي مثل زملائي في هذا الاتجاه بضرورة العودة إلى الوعي الأنثروبولوجي المشترك للإنسانية، ليس بصفة فرد إنسان اقتصادوي، إنما الإنسان - المأثرة والتضامن، والذي اكتشفه مارسيل موس (1872- 1950) في دراساته عن الهبة أو اقتصاد التبادل (هب، خذ، رد). وهذا الاتجاه الأخلاقي ينادي بإجراءات عملية للعدالة الاجتماعية مثل أن يكون هناك مدخول حدّ أدنى لكلّ العائلات (يحدد بحسب كلّ بلد) ويحدد سقف أعلى لمدخول الفرد - من طريق سياسات ضرائبية صارمة- وإن أدى ذلك إلى هروب بعض الاستثمارات وبطء النمو. نطمح لهذا التوجه أن يكون بديلاً لأيديولوجيات الشيوعية والاشتراكية والنيو- ليبرالية والفوضوية والعلمانية المتطرفة - التي تحولت إلى دين مناهض للأديان الأخرى- وهؤلاء فشلوا إما للخلل الفكري أو بسبب التطبيق.



نبذة

ساري حنفي هو أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأميركية في بيروت، ورئيس برنامج الدراسات الإسلامية فيها. وهو أيضاً رئيس تحرير المجلة العربية لعلم الاجتماع "إضافات". وكذلك، رئيس الجمعية الدولية لعلم الاجتماع منذ عام 2018. قبل ذلك، كان نائب رئيس، وعضو مجلس أمناء المجلس العربي للعلوم الاجتماعية (2012 - 2016). وهو أيضاً مؤسس ومدير البوابة الإلكترونية حول الأثر الاجتماعي للبحث العلمي حول/ من العالم العربي (أثر). وقد كان مديراً للمركز الفلسطيني للاجئين والشتات - شمل، في رام الله.

وعمل الدكتور حنفي أستاذاً زائراً في جامعات "بواتييه" (فرنسا)، و"بولونيا" و"رافينا" (إيطاليا)، وباحثاً زائراً في معهد "كريستيان مكلسون - بيرغن" (النرويج) و"معهد الدوحة للدراسات العليا" في قطر. وهو متخصص في السوسيولوجيا السياسية، وسوسيولوجيا المعرفة، وسوسيولوجيا الدين، وسوسيولوجيا الهجرة واللاجئين والعدالة الانتقالية. لدى حنفي عدد كبير من المقالات، وأحد عشر كتاباً مؤلفاً أو محرراً، بعضها أهّله للفوز بـ"جائزة عبد الحميد شومان" 2015 عن دور التكنولوجيا في التغير الاجتماعي، و"جائزة الكويت" لعام 2015 في مجال العلوم الاجتماعية، وكذلك درجة الدكتوراه الفخرية من الجامعة الرائدة في بيرو "جامعة سان ماركوس الوطنية" (أنشئت عام 1551).