ما معنى الحياة؟ سؤال شغل عقول الناس منذ أن وعت البشرية وجودَها على الأرض، وكان لإدراكهم أن حياة الفرد محدودة بعدد من السنوات، مهما طالت، فسوف يرحل. كان عظيم الأثر في القلق الإنساني الذي رافق مسيرة البشر.
بعد ظهور الأديان والفلسفة، تراجع الاهتمام به، فالدين وضع الجواب عن هذا السؤال الخالد، كما لم تتخلف الفلسفة عن عقلنة الإيمان، مثلما لم تتورّع عن بذر الشكوك فيه، فالعقلانية في بحثها عن اليقين، تتعيش على عدم اليقين، ما أدى إلى أن يصبح معنى الحياة مسألة معلقة، على قيد السؤال الدائم، والحيرة، والقلق، والجواب وعدم الجواب.
أسبغ الإيمان بوجود الله على الحياة معاني لا تخضع للتشكيك، بل لليقين المطلق، ذلك الذي يفتقده العقل، ما منح المؤمنين الطمأنينة والسعادة، لم يعد الموت يشكل عامل قلق إلا من ناحية ارتكاب الخطايا، ولقد وجدت الأديان أكثر من سبب للغفران، ما طمأن المؤمنين رغم ما ارتكبوه من معاصٍ، إلى أن أبواب الرحمة الإلهية غير مغلقة في وجوههم.
مع ظهور العلم وتقدّمه، تراجع التسليم بمعنى الحياة المرتبط بالدين والخالق. كان العلم يعمل على الاستيلاء بين فترة وأخرى على جزء من تفسير العالم، كان في ما مضى من حصة الدين. ولم تفتر محاولاته عن التضييق على الدين والحلول محلّه، لكنه سيكتشف مع الوقت قصوره عن تفسير معجزة الحياة، ويدرك أن مغامرته في إدراك معنى الحياة محفوفة بالمخاطر، طالما يخطو في طريق لانهائي، فالمعرفة لم تهبه الحقيقة النهائية، ما دفع بالحياة من جديد إلى اللامعنى.
ارتأى مفكرون بعدما أعيتهم التساؤلات أن معنى الحياة يكمن في البحث عنه، وأن عدم معرفته، هو الجزء الصلب من معناه، وربما لم يكن للحياة أن تستمر إلا لأننا نجهله، إذ يستحيل الاقتناع بالعيش من دون وهم ضروري، يسانده مزيج هائل من التساؤلات، ومتجدد من الخيال، يضخ ولو كان من دون جدوى في واقع متحرك.
اعتبرت الحياة الإنسانية ثمينة، ولا يصح التنازل عنها أمام دعوات الانتحار الرومانسية، مهما كانت يائسة، أو تعبيراً عن رغبة في الانطلاق إلى عالم الأرواح النقية. غير أن الحروب والثورات وصراعات الدول ستُفقد الحياة قيمتها ومغزاها، وتنحدر إلى قسوة ووحشية معمعة جحافل الجيوش والقصف ومجانين الأمجاد العقيمة؛ ليتردد سؤال المعنى، بشكل تراجيدي إزاء ملايين الأرواح التي حصدتها الانتصارات الوهمية، وسقوط إمبراطوريات ودول، وإعادة رسم خرائط العالم... لم تبرر نزيف الشقاء الإنساني.
لم يعدم العصر الحديث مفاهيم متقدمة تسوّغ هدر الحياة الإنسانية على أنها ضريبة الانعطافات الكبرى في التاريخ، وما هذه المتغيرات المغموسة بالدماء إلا جزءاً لا يتجزأ من نضال البشرية، التي لن تتقدم إلا على وقع المدافع والجماجم.
ستشارك الدكتاتوريات في هذا التقدم الأرعن، بالاستعانة بمفهومها الأيديولوجي القمعي ومصادرة أي معنى لصالحها، من دون النظر إلى أن الحياة نفسها تطرح أسئلة بلا أجوبة، لكن من طبائع الأيديولوجيات أن لديها جواباً عن كل سؤال، خاصة أن الدكتاتوريات تعمل على تأسيس أنظمة تستهين بالبشر، ولا تعدم الذرائع، ما دام القتل يمدها بالحياة، وما التطرف في التعذيب إلا صور من اعتبار الحياة الإنسانية مكرّسة لنوع خاص من البشر: النخبة الحاكمة، بصرف النظر إن كانوا من القتلة الأوغاد أو اللصوص السفلة، ما دام العالم يشاركها اللامبالاة والتحرر من آلام الضحايا.