زوربا والحرية

زوربا والحرية

13 أكتوبر 2018
+ الخط -


- إنها الحرية، القيمة العظمى، أمُّ الفضائل التي ترفع النفس البشرية وتكرمها، النور الذي يظهر أمام الكائن البشري فيصيّره إنسانا.
- إنسان؟ ماذا تعني؟
- ما الغرابة؟ أعني حرّاً!

هكذا أجاب زوربا عندما أراد أن يتأكد أنّ من يريده أن يعمل لديه لن يكرهه على شيء "فإذا أجبرتني انتهى الأمر".
ليس ثمّة إكراهٌ أو قهر إذن، وإن كان ينتهي الأمر، يفقد الإنسان هنا صفته التي يتميّز بها عن سائر الحيوانات، وهو الحيوان الرافض لأن يكون كذلك كما عبّر كامو. ولكن هل يطمح الإنسان لأكثر من ذلك؟
إن ولع زوربا بمهنة الفخّار التي بها يمسك الطين ويصيّره، وقد اتخذ القرار بأن يصنع منه ما يريد من أشياء مهما كانت، هو ما يجعله إنساناً. إنها الحرية إذن، إنه القرار، والذي يبدو هنا عملاً إلهياً.
إن زوربا يكتفي بكونه إنساناً، يكتسب صفته متى ما امتلك الحرية ليتخذ قراراً، فيمارس عملاً إلهياً أو مشابهاً لعمل الإله، يصبغه بتلك القداسة التي تميّزه عن الحيوانات الأخرى، لم يتوانٙ زوربا عن قطع إصبعه بالفأس عندما أزعجته وأفسدت عليه خططه، وهو يصيِّر شيئاً ما من الطين، لقد قرر هنا وكان حرّاً.
إن الحرية بوصفها قيمةً عظمى والحامل الحقيقي لتحقيق الفضيلة، تصبح اختباراً حقيقياً للنفس البشرية متى ما توفرت لها، إنها تؤنسها ثم بعد ذلك يبدأ الاختبار.
يبدي زوربا شعوراً بالخجل من الثورة ومن الحرب التي شارك بها في شبابه، ومن العادة التي جرت في مدينته كريت عند الثوار من قطع رؤوس الأتراك ووضع آذانهم في الكحول، ذلك الشعور لا يبدو قراراً عند زوربا، لقد رجح عقله ولكن بعد ماذا؟ بعد أن صار مسنّاً، وفقد أسنانه ولم تعد لديه قدرةٌ على العض، إنها عبودية أخرى، لقد استطال حبل العبودية فقط، والحرية تكمن في قطعه متى ما كانت كل الخيارات متاحة، تكمن في القرار والإرادة، في انغماس الروح بمبدأ الحرية.
تشرّبت روح زوربا بالحرية حيث جعلت تعامله مع كل من حوله يسير وفق هذا المبدأ، خصوصاً مع السانتوري (الآلة الوترية التي يعشق العزف عليها)، يخرج السانتوري من اللفائف بحذر وبحنان كأنه يريد أن ينفخ فيه روحاً، ليدب به الحياة، إن بدأ العزف عليه ولم يلامس اللحن روحه، ولم يفلح هو بالغناء، يرجعه إلى مكانه بحذر.
لا يؤمن زوربا بالحرية لنفسه فقط، إنه إنسان بهذا الخصوص، وإنسان هنا تعني "حرّاً"، أن تؤمن بهذا الصرح المقدس من أجلك ومن أجل الآخرين، حتى وإن كان هذا الآخر جماداً، ليس فيه ما يحفّزه للانعتاق، إنه هنا يريد أن يبث فيه روحاً ليعطيه الحق في الحرية والحياة، إذ تتشابه الأرواح الطاهرة مع روح الله، أرواحٌ غير مشوبة، تريد الحق في الحرية لنفسها ولغيرها، لا أن تسلب هذا الحق عن نفسها وتتعدى ذلك فتسلب غيرها أيضاً.
ماهية الإنسان والغاية التي وجد من أجلها لها فلسفتها التي لا تبدو مفهومة عند زوربا، في حين يبدو هاجس الحرية الذي يتملّكه غايةً له وسبباً لوجوده. لكنه لا يعزوه لأن يصير سبباً لوجود الإنسان، وهدفاً يسعى من أجله. ففي نظره، كل الأشياء متشابهة، كل النقائض تفقد طبيعتها، وكل الأمور سيان، هو فقط يرفض أن يعيش ليأكل ويشرب مثل الحيوان، لذا قد يضحّي بالخبز من أجل فكرة، لا يخاف زوربا من الموت، ليس لأنّ الموت أغنيةٌ عذبة، بل لأن الموت سيطفئ جذوته دون مقاومة منه.
ما يخاف منه زوربا هو الهلاك، هو يعترف بالموت حقيقة كبرى، ولا يُظهر أمام هذهِ الحقيقة مقاومةً أو تمرداً، لكنه يخشى أن يشيخ فيهلك. يرى زوربا في الشيخوخة عاراً، لأن الشيخوخة ستسلبه حريته وتذله، لا يخلُص زوربا إلى كون هذا الهاجس سبباً لوجود الإنسان، وليس في هذا تملُّصاً بقدر ما هي فطرة الإنسان وطبيعته التوّاقة دوماً لفكرة الانعتاق والحرية.
لا يبدو استقبال تلك الحقيقة التي يسلِّم لها رجلٌ كزوربا استقبالاً تقليدياً، إن الموت في نظره حقيقة لا مفر منها ومعركة غير متكافئة، غير أنه يرفض أنّ يقف أمام الموت مهزوماً، إنه يتمتم بسخرية فجّة، أن رجلاً مثله كان يجب أن يعيش ألف عام، يقف، يتشبّت بالنافذة، يصرخ ويضحك، ثم يسلم الروح المتمردة. لقد كان الحبل الذي ربط زوربا به نفسه طويلاً جداً، وإن كان قطعه يتطلب نوعاً خاصاً من الجنون، ولكنه قطعاً كان حبلاً أطول من حبال الآخرين، إذ إن انتزاع الحرية يبدو كانتزاع الروح، وإنسانٌ بلا حرية هو إنسانٌ بدون روح.
الحرية سرُّ الإنسان ومناط صراعه الدائم مع طبيعته حيوانا قد يطمح لأن يصير ملاكاً أو إلهاً، وفي أتون هذا الصراع يظهر الإنسان في أعظم تجلّياته.
76BBB103-DAD1-44F1-B78B-4E762FCD35D2
76BBB103-DAD1-44F1-B78B-4E762FCD35D2
أحمد البغدادي (اليمن)
أحمد البغدادي (اليمن)