زوبعة في هاتف

زوبعة في هاتف

16 مارس 2016

متظاهر متضامن مع "آبل" ضد القرار الحكومي (23 فبراير/2016/Getty)

+ الخط -
من الخطير أن تكون على حق عندما تكون الدولة على خطأ (فولتير).
تخوض شركة آبل الأميركية معركةً ضاريةً ضد الحكومة ومكتب التحقيقات الفيدرالي FBI الذي أصدر أمراً قضائياً ضد أشهر شركة هواتف محمولة، يجبرها على وضع نظام ثابت في جهاز (الآيفون) لفك شيفرات الهاتف المحمول، من دون ضياع المعطيات التي يحتويها، حتى تتمكن الأجهزة الأمنية من اختراق الهواتف المحمولة، والالتفاف على نظام الأمان فيها.
رفضت "آبل" تنفيذ هذا الأمر القضائي، وطعنت فيه أمام المحكمة الفيدرالية، وأوضحت أن تطوير أي برمجياتٍ تساعد في فك تشفير هاتف آيفون واحد قد يسهل على القراصنة الإلكترونيين اختراق بيانات الهواتف الأخرى، حال حصولهم على هذه البرمجيات، أو تطوير برمجيات مماثلة، ما يعني تهديد نظام الأمان والسلامة في أجهزة الهاتف.
وقالت شركة آبل إنها تدعم بقوة تطبيق القانون لتحقيق العدالة ضد الإرهابيين والمجرمين، لكنها ترفض طلب FBI، لأنه ينتهك الدستور والقانون والخصوصيات، ويمسّ بالثقة التي يضعها الزبناء في هاتف آيفون الذي يُباع إليهم باعتباره جهازاً آمناً، ولا يمكن أن يخترق معطياته الخاصة أشخاص أو أجهزة خارج الشركة التي تلتزم بأن تقدّم، تحت أمر قضائي واضح ومحدّد، ما لديها من معطياتٍ، خدمة للعدالة في الحالات التي ينص عليها القانون. لكن، من دون أن تغير شيفرات الأمان التي يمكن أن تستغل ضد أشخاص أبرياء، أو مواطنين لم توجّه لهم تهم محددة، أو قراصنة يمكن أن يتلاعبوا بمعلوماتٍ شخصية في هواتف المواطنين.
بدأت القصة، عندما عثرت السلطات الأميركية على هاتف آيفون يخص الإرهابي سيد فاروق، منفذ هجوم سان برناردينو في ولاية كاليفورنيا الذي أسفر عن مقتل 14 شخصاً وإصابة آخرين، في ديسمبر/كانون أول الماضي، وطلب مكتب التحقيقات الفيدرالي بيانات عن صاحب الهاتف من "آبل" التي قدمت ما لديها من معلومات عامة. ولم يكتف مكتب التحقيقات الفيدرالي بالبيانات التي سلمتها "آبل" عن آيفون الإرهابي، بل طالبها، في قرار قضائي، بتطوير نسخة خاصة من نظام التشغيل iOS، يمكن تثبيتها على هواتف الآيفون، تسمح للأجهزة الأمنية باختراقها عند الضرورة، من دون الرجوع إلى الشركة، فضلاً عن إلغاء خصائص أخرى للأمان في الهاتف. ورفضت "آبل" الامتثال للقرار الأمني، وذهبت إلى المحكمة لحماية نظام الأمان في هواتف الجيب.
القضية الآن أمام المحكمة الفيدرالية، وعمالقة تكنولوجيا الإعلام والاتصال، مثل "غوغل" و"فيسبوك" و"واتساب"، انضموا إلى فريق "آبل"، وأعلنوا تأييد وجهة نظرها، وقالوا إن "مكتب التحقيقات الفيدرالي تجاوز مهمته في البحث عن معطياتٍ لملاحقة المجرمين والإرهابيين، وإن الأمر القضائي الذي استصدره غير دستوري، ويهدّد أمن المعطيات الخاصة، وأمان أجهزة الاتصال".
ثم انطلق سجال قانوني وسياسي، وحتى فلسفي، حول المفاضلة بين الأمن والحرية، بين حماية المجتمع من الجريمة وحق الفرد في حماية حياته الخاصة. بين التكنولوجيا التي دخلت إلى حياة الأفراد الحميمية والتزامات الشركات الأخلاقية والقانونية تجاه أسرار الزبناء. الاتجاه اليميني المحافظ يدافع تقليدياً عن "الأمن" وعن الجماعة في مواجهة الفرد، والاتجاه الليبرالي "اليساري" في أميركا يدافع تقليدياً عن الحرية، وعن الفرد في مواجهة الجماعة.
ليس غريباً أن تميل الأجهزة الأمنية في كل دول العالم إلى تغليب الهواجس الأمنية على قيم الحرية والخصوصية، لكن الغريب أن تصير هذه الأجهزة في بلدان كثيرة المرجع الأول والأخير في تعريف الأمن والحرية وخصوصيات الأفراد، وألا ينتصب القضاء حكماً ومرجعاً في مثل هذه القضايا، وأن تترك مصائر الناس عرضةً لهواجس رجل الأمن وتجاوزاته.
كم من دولةٍ تستطيع فيها شركة كبيرة أو صغيرة أن تقاضي أقوى جهاز أمني في العالم؟ كم من شركةٍ تستطيع أن ترفض تطبيق أمر قضائي، ينتهك خصوصيات المواطنين، وتتجه إلى الطعن فيه أمام المحكمة العليا؟ وكم من جهاز أمني يقبل أن يلعب مع الشركة بقواعد اللعب النظيف، وأن يذهب إلى المحكمة، لتقول كلمة الفصل في موضوع حسّاس كهذا؟ للأسف قليلة هي الدول التي تعرف مثل هذه القصص.

دلالات

A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.