Skip to main content
زهيّة.. وجراحها المثخنة

مدونة عامة

عبد الكريم البليخ

مع ساعات الصباح الأولى، ودّعت زهيّة أهلها المقيمين في قرية نائية تبعد عن مركز المدينة حوالي عشرين كيلومتراً، وكانت تعيش في بيت خالتها حياة كئيبة وفقراً مدقعاً لأكثر من عشرين عاماً بعد أن فقدت والدها في الحرب، وموت أمها هدلة العبد الله المفاجئ، وأخواتها الأربعة في حادث سير مروّع!

لم تكن زهيّة الجريحة، ابنة الاثنين والثلاثين ربيعاً، لتهجر بيت خالتها بدون سبب مقنع، وإنما نتيجة مواقف استفزازية متكرّرة كانت تعرّضت لها من حمدان، ابن خالتها. الابن البكر المدلل الذي ولد بعد أن ولدت أمّه خمس بنات سبقنه بعمر الورود.

وطبيعي أن يكون حظّه في الدنيا يختلف عن أخواته البنات، واهتمام والدته الزائد به وتقرّبها منه، وهو في سنّ الثانية والعشرين، وطالما يحاول أن يتقرّب من زهيّة التي أعجب بها، ويحاول التحرّش بها، على الرغم من أنها تكبره سناً، ويرميها بحجاره الكبيرة على الرغم من جراحها المثخنة بفقدانها الأب والأم وأخوتها الأربعة، وتحملها ذلك على مضض، وصبرها هذا لم يدم طويلاً، وفكرت بالخلاص من رمادية الحياة التي تعيشها مهما عرّضت نفسها إلى التهلكة!

وكانت زهية بطبعها، مسالمة بسيطة في تعاملها، وتحاول وقف تحرشاته الغليظة، بعيداً عن نقل شكواها إلى خالتها التي تعاملها معاملة حسنة، وتقوم على تأمين ما تحتاجه من لوازم خاصة بها.

وظل حمدان يعلنها صراحةً حبّه لزهيّة الرافضة له، ومحاولاته تلك باءت بالفشل، لا سيما وأنها مقيمة في بيت أهله، وكانت ترفض ما يطلبه منها، وهذا التدخّل المتكرّر، دعاها إلى ترك بيت خالتها واللجوء إلى المدينة والعيش فيها برغم الصعاب التي تواجهها.


وبعد أن استأذنت خالتها وزوجها بالذهاب إلى المدينة، والبحث عن عمل يُناسب شخصيتها الجميلة، ويغنيها عن الفاقة وحالة الذلّ التي تعيش، وهي الشابة التي فاتها، كما تظن قطار الزواج، إلاّ أنَّ خالتها وزوجها حاولا مراراً منعها من الإقدام على هذه الخطوة، التي كما يدّعيان، ستندم عليها في ما بعد، وأصرّا على معرفة السبب المباشر لتركها البيت والرحيل إلى المدينة، إلاّ أنَّها لم تبح بسرها، ففضلت السكوت حفاظاً على نفسها واحتراماً لخالتها بدلاً من فضح ابنها الذي تعده كأخ صغير بالنسبة لها.

إصرار زهيّة وإلحاحها، ورغبتها الشديدة بترك البيت الذي عاشت فيه فترة من الزمن، سمح لخالتها وزوجها، أخيراً بالرحيل إلى خارج البيت والذهاب إلى المدينة والعيش فيها، بعد إلحاح، على أن تعودهما بين فترة وأخرى، وفي حال سمحت لها ظروفها المعيشية بذلك.

حملت زهيّة صرّتها، وما تحتويه خزانتها من ملابس واتجهت إلى المدينة، واستقبلتها صديقتها جازية بشوقٍ كبير.

وجازية ابنة الثامنة والعشرين عاماً، متزوجة من ابن عمّها إسماعيل منذ أكثر من خمس سنوات ولديها ابنتان وولد وحيد. 

 

رحّبت بها في منزلها المتواضع، وكانت عرّفتها إلى زوجها الذي يعمل في إحدى المحال التجارية، وأكدت عليه، بأن يجد لها العمل الذي يناسبها لكسب قوت يومها، وعلى أن تقوم بتأمين احتياجاتها بجهدها بعيداً عن عطف ومساعدة الآخرين.

أحلام زهيّة لم تكن كبيرة، ولا هي بالغريبة، وإنما مجرد العيش في بيت متواضع، والزواج بابن الحلال الذي يخاف عليها يحترمها ويقدرها، ويقوم على تلبية احتياجاتها ورغبتها، وعلى أن تؤسس معه أسرة بسيطة تحب الحياة، وتضفي عليها ألوان السعادة، وهذا كل ما تحلم به، وكانت ترجو الله أن يتجسّد هذا الحلم إلى واقع على الرغم من بساطته، ومن حقها، كأنثى كافحت كثيراً، وتحمّلت شقاوة ابن خالتها حمدان، على أن تعيش وتتنعم مثال أي إنسانة فقيرة بدلاً من عيشها حياة محبطة!

أدركت زهيّة أنَّ الحياة فيها الكثير من ألوان البؤس، وهمسات البوح فيها لا تنتهي، وبحاجة إلى أيدي أمينة تشفق عليها ترعاها وتقدرها، وتحافظ عليها، ولم يكن يلوح في الأفق أي إنسان يهتم بها على الرغم من أن هناك الكثير من الشباب في عمرها، وأكبر منها تقدموا لخطبتها مراراً إلاّ أنها كانت ترفضهم، لأنها لم تكن تقتنع بأي واحد منهم.

زهيّة الشابة الجميلة المجتهدة، وبعد جهد جاهد، ومتابعة حثيثة، وجدت العمل الذي يناسبها. وتحققت رغبتها بالعمل في فندق متواضع تشرف على ترتيب غرفه، وتقوم بإعداد وجبات الإفطار لنزلائه مع بعض العاملين فيه. 

وكان العمل الذي تقوم فيه لا يستمر أكثر من ثماني ساعات في اليوم، وينتهي في الساعة السادسة مساءً، لقاء أجر متواضع يكفي تأمين احتياجاتها الرئيسة بعد دفع ما يترتب عليها من إيجار البيت الصغير الذي تقيم فيه في حي فقير، واستمراريتها في هذا العمل زاد من رغبتها احترامها لنفسها أكثر، وشعرت بأن الحياة بدون عمل لا قيمة لها.

استمرت أكثر من عامين في عملها الذي أحبته كثيراً، وأدركت قيمته وأتقنت فنونه بصورةٍ كبيرة، ما جعلها تتفوق على الكثير من العاملين معها في الفندق، وهذا ما دفع صاحبه أن يزيد لها أجرتها، ويخفّض لها ساعات العمل الطويلة التي كانت تشغلها، وهذا ما دفع بها إلى أن تقدم الكثير ما في داخلها لأجل راحة النزلاء المقيمين فيه، وأغلبهم من السيّاح الذين يصلون الفندق من أماكن بعيدة للإقامة فيه.

عملها الممتع الذي تهيئ له كل ما يرضي نفسها أولاً وصاحبه، أكسبها رضا النزلاء الكثر ما شجّع صاحب الفندق، المعلّم ناجي، على شراء فندق آخر في مدينة ثانية يتردّد عليها النزلاء بكثرة، وهذا ما زاد من دخل الفندق أضعافاً مضاعفة بعد أن سلّمها إدارته والإشراف عليه، ودفع لها ما أرادت من أجر مادي لا رضائها، كما طلب يدها للزواج في أكثر من مرّة، إلاّ أنها كانت تتردد بالموافقة، على اعتبار أنه يفوقها بعشرين عاماً، وحاول مراراً عسى أن توافق عليه زوجاً، وكان رفضها له يزيده إصراراً أكثر على التعلّق بها، عارضاً عليها كل ثروته للزواج منها، رغم أنه متزوج  ولديه ثلاثة أبناء وابنة، أكبرهم مجدي يتجاوز عمره الأربعين عاماً.

تحسّن أداء الفندق، الذي طالما يدفع صاحبه بالتردّد على زهيّة الشابة الجريحة المنهكة بطلب يدها لأكثر من مرّة، وهي ترفض طلبه رغم إغرائه لها بتنفيذ كل رغباتها.

ظلّ الحال كما هو لأكثر من سنة، وشاء القدر أن تعرّفت زهيّة بأحد نزلاء الفندق، وهو شاب عربي مقيم في تركيا. تبادلا نظرات الإعجاب واتفقا على الزواج، وأعلمت صاحب الفندق بذلك الذي غضب غضباً شديداً، ومحاولاً منعها من الإقدام على هذه الخطوة التي ستنعكس عليها سلباً في المستقبل من شدّة خوفه عليها وحبّه لها.

لم تمضِ أيام حتى تزوجا وسافرا إلى أهله حيث يقيمون في تركيا لقضاء شهر العسل هناك، وفي طريقهما تعرّضت الحافلة التي تقلّهما لحادث مؤسف أودى بحياة زوجها الشاب.

 عادت إلى عملها من جديد، واضطرّت مرغمة على الزواج من ناجي، صاحب الفندق، بدون أيّ اشتراطات، وعاشا معاً حياة كريمة كان فيها الكثير من الود والاحترام رغم كبر سنّ زوجها، بعيداً عن الوقوع في أي خلافات تذكر.

مدونات أخرى