زهرة الفلسفة الدينية

زهرة الفلسفة الدينية

02 يونيو 2015

هانس كينغ

+ الخط -
بدأ هجومه الإصلاحي الديني على أم الكنيسة الكاثوليكية في العالم، الفاتيكان، في عام 1970، وذلك بعد إصداره كتابه "معصوم" unfehlbar منتقداً فيه عصمة البابا، معتبراً إياها عقيدة دخيلة على تعاليم الأناجيل المسيحية، وتسيء إلى براءة المسيح، ورسالته الجوهرية السمحاء. فعاقبته الكنيسة الكبرى في روما بفصله من كلية اللاهوت الكاثوليكية – جامعة تيوبنغن الألمانية في 1979، لكن العقوبة لم تصل إلى طرده من صفوف رعايا الكنيسة الكاثوليكية. أما هو فلم يكترث لهذه العقوبة الفاتيكانية التحذيرية، ورأى نفسه على خطى السيد المسيح أكثر بكثير من مختلف المؤسسات الكنسية، التي تلهج باسمه. 
إنه فيلسوف الإصلاح الديني الحديث في أوروبا، والغرب بعامة، اللاهوتي السويسري هانس كينغ (1928) والذي يذكّرنا بالمصلحين الكنسيين الكبار في تاريخ المسيحية، أمثال مارتن لوثر، وجون كالفن، وملنشثون..إلخ، خصوصاً لجهة معارضته الصارمة كل أشكال الحروب، ولا سيما منها التي تتخذ من الدين لبوساً فاقعاً لها. وكان هانس، في الإجمال، لوثري النزعة الإصلاحية، ينتقد في العمق سلطة الكهنوت الخاص، انطلاقاً من أن جميع المسيحيين يتمتعون بدرجة الكهنوت المقدسة نفسها، وأن لكل فردٍ منهم، وحتى لكل امرىء من مختلف الديانات، الحق في تفسير الكتاب المقدس، شريطة تمكّنه المعرفي والفلسفي والتاريخي بالأديان وتعاليمها.
وفي إمكاننا القول إن الذي يزيد هانس كينغ تميزاً عما سبقه من مصلحين دينيين كبار، (تبعاً لاختلاف الظروف وأحوال العصر طبعاً) دعوته إلى الحوار المفتوح والدائم بين مختلف الديانات السماوية والعقائد الروحية (فضلاً عن أتباع الأفكار الفلسفية الوضعية) لاستخلاص رسالة أخلاقية عالمية واحدة ملزمة فيما بينها. ولأنه جنح إلى نقد الفاتيكان، وانخراطه غير المرئي بالاستراتيجيات السياسية، والجيو- استراتيجية الخفية للدول الغربية الكبرى، فقد كان هذا الكاهن الجريء قد أقصي عن موقعه ومهماته مستشاراً أول في لجنة حوار الأديان في مجمع الفاتيكان الثاني (1962 – 1965).
من جانب آخر، كان هانس كينغ، صاحب الـ 70 كتاباً، قد خاض، في الثمانينيات، حوارات ناجحة مع مسلمين ويهود وبوذيين وهندوس، كرّسها فيما بعد في كتب، كان لها تأثيرها الطاغي على المهتمين في مختلف الدوائر الدينية والسياسية والثقافية، غرباً وشرقاً. ونتيجة لذلك، استمرت محاربة الرجل، ولكن، بطريقة لبقة و"صامتة"، ولا تستثير بالتالي أية تبعات تشهيرية بالفاتيكان، خصوصاً بعدما تمّ تخريج الخلافات بين الطرفين، على أساس أنها لاهوتية محض، تدور حول العصمة البابوية، وفلسفة معنى الخلاص، وإمكان نجاة المؤمنين، وإن لم يكونوا على دين يسوع المسيح، فيما أصرّ هانس كينغ على نهجه، وقرّر تحدّي كل من يهمه الأمر، في الفاتيكان وخارجه، بإنشائه مؤسسة حوار خاصة بالأديان، تؤمن بالمشاركة الفاعلة للمؤمنين من الأديان كافة، في رسم المصير العالمي.
وتنطلق هذه المشاركة، بحسب هانس، من مسلمة "أن لا سلام عالمياً بلا سلام بين الأديان.. ولا سلام بين الأديان بلا حوار بين الأديان.. ولا حوار بين الأديان بلا دراسات جادة وجدلية، صادقة وموضوعية حول المشترك الأخلاقي فيما بينها".
كما يرى أن البشرية بحاجة إلى ديانات تتدرب، بعد كل الحروب الساخنة والباردة، وبعد التعايش السلمي الذي يفرّق أكثر مما يدعو إلى السلام، على وجود بنّاء من أجل تعاون سلمي، إبّان الصراعات المحلية والإقليمية، فشبكة العمل لأجل إعلام، واتصال، وتعاون صارم بين الديانات، باتت أكثر من حاجة ضرورية. وفي هذا الصدد، ينبغي اختيار رفقاء درب، يتساوون في القدرة على التحمّل، وبذل التضحيات، والاستعداد الشجاع لتطورات الأمور، بمختلف اتجاهاتها ونتائجها السلبية عليهم.
ينطلق هانس كينغ من أن الديانات تتكلم بسلطة مطلقة، وهي لا تعبّر عن هذه السلطة بالألفاظ أو بالماهيات، أو بالتعاليم، أو بالعقائد فحسب، بل بالرموز والصلوات والطقوس والأعياد، أي بتعبير عقلي وعاطفي في آن واحد. وتملك الديانات الوسيلة لتصقل الوجود الإنساني، لا على صعيد النخب الفكرية فحسب، بل على صعيد الطبقات الشعبية الكبرى أيضاً. وقد برهن التاريخ على ذلك، إذ تغلغلت الديانة في الثقافة، واكتسبت طابعاً فردياً. ولكن، ليس في وسع الديانة أن تفعل كل شيء، إلا أنها قادرة على أن تمهد الطريق، وتضيف شيئاً ما على حياة الإنسان في أمور كالآتي:
تحمل الديانة، مثلاً، بعداً خاصاً عميقاً، وأفقاً ذا معنى شاملٍ، إزاء الألم والظلم والعبثية والشعور بالذنب، وتحمل معنى حياتياً نهائياً إزاء الموت نفسه، أي تتساءل من أين يأتي الكائن؟ وإلى أين يذهب؟ وما هو مآله؟

وتحقق الديانة كقاعدة أخلاقية مطلقة، ملجأ للثقة، والإيمان، والضمانة، وتبلور قوة الذات والدفء والرجاء، من خلال رموز وطقوس واختبارات وأهداف مشتركة، أي تخلق جماعة روحية، وحتى وطناً.
ومن وجهة اللاهوتي، هانس كينغ، ثمة خمس وصايا، تقرّ بها الديانات العالمية الكبرى، حتى في المجالين الاقتصادي والسياسي، هي: لا تقتل، لا تكذب، لا تسرق، لا تستسلم للفسق، أكرم الأهل وأحبب الأولاد. وقد تبدو هذه الوصايا لكثيرين مبادئ عامة. ولكن، كم من الأشياء تتغير، وينبغي أن تتغير إذا أخذت وصية "لا تسرق"، مثلاً، مكانها من جديد في ضمير البشر، ووجّهت ضد الفساد الذي تفاقم أكثر فأكثر، حتى في الدول الديمقراطية التي لم يتمكن منها كلياً حتى الآن.
لا يخشى كينغ استبداد المتطرفين في الأديان كافة، إذ يعتبرهم كائنات بشرية طيبة وقابلة للإصلاح، بمجرد دراسة أوضاعهم الاقتصادية والنفسانية، وحلها حلاً جذرياً لا ترقيعياً، يبدأ من مرجعياتهم الدينية نفسها، فالخلل أيضا ينبغي معالجته من الأصل.. التعليمي أو التوجيهي نفسه، ومن القمة دائماً منطلقاً إلى القاعدة.
لكنه، من جانب آخر، يتحدث عما يقوم به أفّاكون، يتغذّون من اهترائهم العقلي المتمادي في استغلال الدين في السياسة، أو التدّين السياسي، وزرعه في نفوس وعقول جاهلة، بحيث تُتئم فيها نزعات إجرام لا حدود لها ولا ضوابط تردع، حتى عن ارتكاب أفظع الفظاعات الدموية التي لا يمكن لدينٍ البتة أن يجيزها، أو يغضّ الطرف عنها. و"يبقى، على أي حال، اللغز "الديني" الأعمى محاطاً بغموض مطلق في ذات صاحبه، حتى ولو أراد الزارع فيه مجدّداً، ثنيه عن الاستمرار في درب الضلال المبين" على حد تعبير هانس كينغ.
وكان هانس قد دعا، في محاضرة له في الجامعة الأميركية في بيروت (مطلع السبعينيات من القرن الفائت حضرها كاتب هذه السطور) رجال الدين، من مسيحيين ومسلمين، في لبنان والعالم أجمع، إلى التفكير بمسألة الدين من منظور تاريخي وراهن في آن معاً، وتفسير الثوابت في هذه المسألة على أنها متغيّرات أيضاً. وأردف، بما ألخصه، كمستمع له وقتها، قائلاً إنه، من موقعه كرجل دين مسيحي، لا يرتاح لنظراء له من ديانات أخرى، إلا إذا تجرأوا على التفكير بما لا يُفكّر فيه، وقول ما لا يقال، ونقض ما لا ينقض.. و"في هذا نخدم أدياننا جميعاً والبشر أجمعين، ونجعلها، أي الأديان، تكتمل أكثر فأكثر بأنوار لا عيب فيها من منظور الناظرين إليها".
واستطرد: "زهرة الفلسفة الدينية تنبثق دوماً من نار لطيفة اسمها المحبة.. المحبة المنبعثة دوماً من قبس الله، ومن حلم اليقظة في المؤمن الحقيقي". وختم ".. وإني، يا سادة، لأرى الوميض الإيماني خلال الرماد، ويوشك أن يكون له ضرام، وضرامه لا يمكن له إلا أن يكون برداً وسلاماً على وجوه الجميع وقلوبهم".
A2AFC18A-C47E-45F2-A2B6-46AD641EA497
أحمد فرحات

كاتب وشاعر لبناني، عمل في عدد من الصحف اليومية اللبنانية والعربية، وفي مجلات ودوريات فكرية عربية.