زمن الخوف وجاسم أندورف

زمن الخوف وجاسم أندورف

17 مايو 2020
+ الخط -
لم يكن صديقي ليخافَ من شخص، بقدر خوفه من رجل الشرطة والأمن، وربما هذه الفوبيا عششتْ فيه من كثرة ما أخافه أهلهُ بهم، ليضمنوا هدوءه، وعدم شغبه، يقولون له: تسكت ولا نخبر الشرطة، وهذا قبل وجود الهاتف الجوال، وما فيه من تطبيق يُستخدم لإخافة الأطفال في ما يُسمى شرطة الأطفال، هذا الخوف لم يكن عند الأطفال فقط بل يشمل المنطقة والمدينة التي يعيش فيها، فللشرطة ورجال الأمن صولة وجولة، فيكفي وجود عنصر منهم، ولو لم يكن ذا رتبة عالية، لبثِّ الرعب في نفوس الناس، وجعلهم يقفون على قدم واحدة، يقدمون له المال والولائم ليضمنوا رضاه.

وكانت المدينة بعيدة عن العاصمة، وهي مرغوبة من قبل رجال الشرطة والأمن، فهي بقرة حلوب تدرّ مالاً وفيراً، ربما أكثر من دول الخليج. خوف صديقي منهم جعله يشمّ رائحتهم من مسافات بعيدة، حتى وإن لم يرتدوا زِيهم المخيف، أو لم يزينوا أقفيتهم بمسدساتهم التي يتباهون بها، أو لم يركبوا دراجاتهم النارية التي تميزهم، وتساعدهم في الحركة والتنقل.

عاش صديقي وكبر في هذه المدينة، وكان ذا ميول أدبية، فهو يقرض الشعر ويحضر النشاطات الثقافية في المركز الثقافي، وذات يوم حضرتُ معه مسرحية مونودراما لممثل قادم من حمص، وتدور حول الاعتقال والسجن، وكان ضمن الحضور عدد من عناصر الأمن الذين يُكلَّفون لمتابعة كل الأنشطة، وكتابة ملخص وتقرير عما شاهدوه وسمعوه، وأحيانا يكون هؤلاء العناصر أكبر من عدد الجمهور، وترى كل واحد منهم منهمكاً بالكتابة، وقد لا تسمح له ثقافته، ولا اهتمامه بمعرفة ما سمع وشاهد، وهذا ما حدث بعد انتهاء المسرحية، لممثلها الوحيد، حيث إن رجل الأمن لم يدرك، ولم يفهم المسرحية وما ترمز إليه، فرآنا ونحن ننزل من قاعة المركز واستوقفنا، ليسألنا عن المسرحية، ومقولتها، وهل أعجبتنا أم لا؟


رد عليه صديقي وهو يغمزني بطرف عينه: واضحة المسرحية تتحدث عن نضال الشعب الفلسطيني، وتعرضه للبطش والاعتقال في سجون العدو! ابتسم رجل الأمن وقال: (هلق بذمتك هيك فهمت من المسرحية)؟.. وهو يعرف في قرارة نفسه كذب ما قيل..

أكمل صديقي دراسته الجامعية، وعُين مدرساً في إحدى المدارس، ولم يفارقه الخوف، وفي أحد الأيام قال له المدير: أستاذ جاء مساعد من الأمن، وسأل عنك ولم تكن موجوداً.

أصاب صديقي الفزع، وارتعدت فرائصه، وأخذ يسترجع ما فعل وما قال، ومَن سمعه، لاحتمال أن تكون كلمة خرجت منه، وفُهم منها شيءٌ، وما شاء الله فإن كتّاب التقارير مشهود لهم في مدينته، وإن لم يجدوا ما يدبّجون به تقاريرهم، كتبوا عن أنفسهم وأقربائهم.

لم يستطع صديقي النوم في تلك الليلة، وهو يفكر بما سيحدث له، ومَن دبّج به تقريراً للأمن، وجعلهم يريدون معرفة حركاته وسكناته.

في الصباح طُرق الباب، فتحه ليرى شخصاً، عرّف عن نفسه بأنه مساعد في الأمن، وطلب منه أن يجلس معه بعض الوقت، للاستفسار حول بعض الأمور، كان المساعد يتصنّع اللطف، قال له صديقي: أهلاً وسهلاً تفضل.

وبعد الجلوس فتح المساعد دفتره، وبدأ بالأسئلة من يوم الولادة حتى لحظة جلوسهما، ولم يترك شخصاً إلا وسأله عنه من الأقرباء والأصدقاء، وكل الإجابات تُدوّن في الدفتر العتيد، وبعد استيفاء المعلومات، وسؤال صديقي له، عن سبب قدومه، قال له المساعد: هناك كاتب اسمه جاسم أندورف، هل لك صلة به، وهل تعرفه؟

أجابه صديقي: هذه أول مرة أسمع بهذا الاسم. اسألوا عنه في المركز الثقافي، أو في اتحاد الكتاب، فهم يعرفون كل شاردة وواردة. ردّ عليه المساعد: عليك أن تكتب إقراراً بأنك لا تعرفه، وأعطاه ورقةً بيضاءَ ليكتب عليها، وهو يُملي عليه، وكتب: أنا فلان الفلاني لا أعرف المدعو جاسم أندورف، ولم أسمع به، وعليه أوقع.

صارحني صديقي بما حدث مع المساعد والسؤال عن جاسم أندورف، وطلب رأيي فقلت له: جاسم وأندورف كمان، واضح أن الأمر مجرّد حجة، لإعلامك أننا موجودون نحصي عليك أنفاسك، جاسم اسم من منطقتنا من رفاق خلف وفطيم، وأندورف اسم روسي، من رفاق ستالين وناتاشا.. ( فشو جاب جاسم لأندورف).