زكي مبارك خارجاً على عصره

زكي مبارك خارجاً على عصره

05 اغسطس 2019
(زكي مبارك)
+ الخط -
مع صعود التيار الليبرالي في النخبة والأكاديميا المصرية خلال عشرينيات القرن الماضي، كان الاختلاف مع أيّ من رموزه يعني بالضرورة انغلاقاً فكرياً ونبذاً من قبلهم، وهي خلاصة تنطبق على تجربة الناقد المصري زكي عبد السلام مبارك (1892 – 1952) التي تحلّ اليوم ذكرى ميلاده.

ساهمت أيضاً عوامل شخصية وسياسية في تهميش صاحب كتاب "الموازنة بين الشعراء"، ليصبح المدخل الأساسي لقراءة سيرته وأعماله هو سجالاته مع طه حسين وأحمد أمين، التي لا تأخذ حقّها بالدرس في الثقافة المصرية، والعربية عموماً، إنما تفضي في أحسن الأحوال تعاطفاً معه، بفعل ما ناله من آرائه النقدية الجذرية واللاذعة.

نال مبارك ثلاث شهادات دكتوراه، الأولى من الجامعة المصرية عام 1924 عن أطروحته "الأخلاق عند الغزالي"، وبعد سنوات حصل على الثانية من السوربون برسالة بعنوان "النثر الفني في القرن الرابع"، وحاز الثالثة عام 1937 من جامعة القاهرة عن أطروحته "في التصوّف الإسلامي"، ورغم ذلك لم يدرّس في الجامعة سوى لسنوات معدودة، وعمل مفتشاً في وزارة التعليم، ولم يحصل على منصب ذي قيمة طوال حياته.

يردّ الدارسون لسيرته مزاجه الغاضب على من حوله، إلى ظروف تنشئته الفقيرة والصعبة في إحدى قرى المنوفية، حيث مات جميع إخوته عند ولادتهم، ونجا هو بالصدفة، وذهب لتلقي العلم في الأزهر فلم تعجبه آراء أساتذته هناك، وقرّر الانتقال إلى الجامعة المصرية ليكمل تعليمه هناك.

قاد المظاهرات والمسيرات في ثورة 1919 حيث كان خطيباً مفوّهاً، لكنه خلافاً لغيره من المثقفين لم ينخرط في الشأن العام ولم ينضمّ إلى حزب من الأحزاب التي دعمت منتسبيها في وظائفهم، ولما سافر إلى باريس ظهر باكراً رفضه المطلق على تيار التغريب الذي بدأ في مصر منذ ناقش منصور فهمي أطروحته في السوربون حول المرأة في الإسلام، وتبعه طه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد في تقديم آرائهم الصادمة للسائد.

في مقدمة النسخة المترجمة من أطروحته في النثر الفني، يفصح مبارك عن خصومته مع الأكاديميين الفرنسيين الذين يدرّسون الأدب العربي وفق خلفيتهم الاستشراقية المعادية لكلّ ما هو قادم من الشرق، وبالطبع سيأتي ذكره على عميد الأدب العربي الذي لا يراه خارج هذه المعادلة.

ومع عودته إلى القاهرة، كان متأهباً للقيام بكل تلك المعارك الشرسة التي خاضها، حيث كتب حول عزمه على "ترويع الآمنين من رجال الأزهر والجامعة المصرية ووزارة المعارف، ففي تلك الديار رجال يأكلون العيش باسم العلم والأدب، ثم لا يقدمون ولا يؤخرون في دين ولا دنيا".

معركته الأشد ستكون مع طه حسين الذي ناصره في محنته حين قُدّم للمحاكمة بسبب كتابه "في الشعر الجاهلي"، لكنهما سيختلفان على رؤية الأدب العربي القديم، في خصومة قادتهما لكتابة مقالات أقل ما يقال عنها أنها تتسم بالقسوة، مع جرأة أكبر من جانب مبارك أدّت إلى أن يُفصل بسببها من الجامعة في موقف من صاحب "الأيام" استنكره كثيرون.

لن يتوقف بينهما الجدال، فحين كتب مبارك مقالاته الاثنتين والعشرين ضد أحمد أمين، متهماً إياه بالجناية على الأدب العربي، كان يكرّر بصريح العبارة أن صاحب "مستقبل الثقافة في مصر" هو الذي دفع بأمين أن يدوّن تهجمّاته الفارغة على الشعر العباسي ووصفه بـ"شعر المعدة".

يشير أنور الجندي في كتابه "المعارك الأدبية في مصر منذ 1914 – 1939" أن المعركة مع حسين وأمين انزاحت إلى بُعد شخصي محض ولّده إحساس عميق بالظلم والضيم لدى مبارك لانقطاع لقمة العيش، ما جعل جزءاً غير يسير من كتاباته تبتعد عن الموضوعية، إلا أنه لا يغفل أن يضع الخلاف ضمن سياقه التاريخي والثقافي.

خارجاً عن النخبة لكن على هواه، ووفق رؤيته الخاصة، حيث لم يسلم التيار المحافظ والأزهري من انتقاداته أيضاً، استنزف مبارك بتلك الخصومات التي تدل على عمق فكره وأصالته وثقافته الموسوعية، ما اضطرّه إلى الذهاب إلى العراق بحثاً عن العمل، وهناك سيحظى بتكريم لم ينله في وطنه، ثم يعود إلى مصر ويرحل بعد سنوات عن أربعين كتاباً وآلاف الأوراق غير المنشورة.

المساهمون