زرياب الذي لم يُسقط الأندلس

زرياب الذي لم يُسقط الأندلس

02 يناير 2016
لم يكن زرياب أول موسيقي يدخل إلى الأندلس (الفيسبوك)
+ الخط -
الكثير من الدعاة المتحمسين عالجوا تاريخ الأندلس بصورة شوّهت الوعي بالتاريخ، مطلقين أحكًاما عامة وفق رؤى دينية أو أهواء خاصة. المشكلة تحدث حين يتم تعميم هذه القناعات على جزئيات تاريخية حساسة، يلوى من أجلها عنق الأحداث لتمرير الرسائل الوعظيّة التي يتبنونها في خطابهم، مما يدفعنا للتوقف عليها ومساءلة بعض ما يروج إليه في هذا الصدد.


يمكن القول إن أكبر تجنٍّ على التاريخ هو حدّه بأطر أيديولوجية. خاصة عند توجيه إسقاطات دينية على أحداث تاريخية، فغدت بذلك جلّ الأحداث التاريخية من السياسي إلى الاجتماعي منها، مؤطرة بالتحيزات الدينية. وكأن التاريخ حينها ينسب للأديان لا للإنسان. وبذلك أصبحت قراءة التاريخ نفسها قراءة لاتاريخية على النقيض، مقيّدة للنصوص، وتُحاكِم من في هذا التاريخ وفق ذلك، هي لا شك قراءة مشوّهة بعيدة أشدّ البعد عن الروح النقديّة والاستكشاف والمراجعة وفصل الذات أو الأحكام المسبقة المهيمنة على التراث.

وهكذا أصبح القارئ العربي المعاصر مؤطرا بتراث مثقل بحاضره، قارئاً يحمل على كاهله تاريخا مزيفا لصالح صراعات لا ناقة له فيها ولا جمل. ونجد ذلك جليًا في تقييم الشخصيات التاريخية على مرّ العصور.

ومن هنا يأتي الحديث عن زرياب، أحد أبرز المحكومين بهذا النسق غير الموضوعي في القراءة التاريخية، فهو حسب الوعّاظ، الرجل الذي قاد الأندلس إلى عصور الانحلال والضياع ومن ثم السقوط في الهاوية. وفي ذلك مبالغات كثيرة وتجنٍّ بالغ على شخصية تاريخية لها ما لها وعليها ما عليها، بل وفيه أيضًا تعاطٍ سطحيّ مع التاريخ نفسه، إذ كيف يمكن لشخص يتيم أن يتسبب بانهيار مجتمع بأكمله؟ ثم من هو زرياب الذي يتم تضخيم دوره بهذا الشكل؟ ولماذا يعتبر سببًا لسقوط الأندلس؟ لأنه أدخل الموسيقى إليها، هكذا يقول الادعاء. فهل حقًا لم تعرف الأندلس الطرب إلا بعد مقدمه من المشرق؟

لا نختلف في أن من أهم سبب سقوط الأمم حسب الفيلسوف غوستاف لوبون هو تغير مزاج الأمة العقلي والدعة إلى المعيشة الراضية بنت اليسر وموت فضائل الأمم الحربية وحب الذات وانصراف الهمم عن الاشتغال بالمصالح العامة. لكن هذا كله ما كان ليحدث في زمان زرياب ولا في زمان تلاه طوال فترات كبيرة تتالت، والخطأ الذي قاد إلى تتابع انهيار مدن الأندلس لا يعلق على من أضاف مظاهر جمالية فيها، بل على من انشغل بذلك على حساب ما هو أجدى.

فحسب لوبون أيضًا نجد أن الأمم تبلغ ذروة مجدها متى تمّت لها روح قوية عامة وتسقط متى تحللّت هذه الروح، فمن الذي تحللّ ولماذا، هنا المحاكمة.

بداية، لم يكن زرياب أول مغن يدخل إلى الأندلس، بل سبقه منذ الفتح الإسلامي لأراضي القوط الغربيين، عشرات الأسماء على غرار عبدالواحد بن يزيد الأسكندري وزرقون وعلوم والعجفاء. كما انتشر في الأندلس طرق غنائية عدة، كالغناء الحجازي الذي استبدل لاحقًا بالعراقي، فضلًا عن الغناء على طريقة النصارى ممن جاورهم. ويفنّد هذا الفيلسوف ابن باجة إذ يقول إن أهل الأندلس كانوا يغنون غناء النصارى قبل زرياب، ومع قدومه أصبح هناك "هوية وطابع غنائي أندلسيّ" إن صحّ التعبير.

وقد ذكر ذلك أيضًا أحمد التيفاشي صاحب كتاب "متعة الأسماع في علم السماع" الذي يؤكد على أن غناء أهل الأندلس كان إما بطريقة النصارى، أو بطريقة حداة العرب. بمعنى لم يكن لديهم تلك البصمة الواضحة في الغناء إلا بعد نهضة الأمويين الثانية والتي سجلّوا إبانها أعلى درجات التألق الذهبي للأندلس حضاريًا. وفي كلتا الشهادتين تأكيد على تواجد الموسيقى والغناء قبل زرياب.

أول دخول لزرياب في الأندلس كان في عهد عبدالرحمن بن الحكم الملقّب بالأوسط"792-852م"، وقد جاء زرياب إلى الأندلس بغرض لقاء والده الحكم بن هشام الذي وافته المنيّة وهو على أعتاب الجزيرة الخضراء. إذاً فقد دخل زرياب الأندلس قبل سقوط آخر مدنها بما يقارب الستة قرون.

في عهد عبدالرحمن الأوسط، شهدت الأندلس أزهى عصور النهضة في مختلف صروف الحياة، ذات النهضة التي يُباهي بها كل من يلعن زرياب اليوم.. نهضة عمرانية وأخرى زراعية، ريادة في الثقافة والفنون، وإثراء للحضارة بشتى صروفها. بل ووصلت إبانها حركة الجهاد الأندلسيّ إلى أسمى اتساع، ففيه تم إنشاء أول أسطول حربي وفيه هزم النورمان، وفيه انتشرت الغزوات في الشمال الأندلسيّ حتى جليقية التي لم يهزم الأندلسيون خلالها في أي معركة قطّ.

وبالمناسبة لم يكن الحاكم الأندلسيّ الذي قرّب زرياب إلى مجالسه بعيدا عن الدين، بل يُحسب له أنه كان ممن قرّب الفقهاء وعظّم من شأنهم، كما أنه أول حاكم أندلسيّ يلزم وزراءه بالقدوم إلى قصره للمشورة وللاحتكام بالرأي السديد يوميًا. كما كان لسيادة المذهب المالكيّ في الأندلس دور في تخفيف حدّة التصادم بين الدين والفن وانعكس ذلك على انتشار الموسيقى وتطويرها.

فما الذي أضافه زرياب بالموسيقى ليثير كل هذا الصخب حوله؟ كان العود في الصنعة القديمة لا يزيد عن أربعة أوتار، فزاد عليها زرياب وترًا خامسًا وأعطى للأوتار الخمسة ألوانا محددة يحاكي كل وتر فيها جزءا من جسد الإنسان، وأتى الوتر الخامس في الأندلس ليكون مقام النفس في الجسد. كما أن زرياب جعل من قوادم النسر مضرابا للعود مستعيضًا بذلك عن الخشب لما لقشر ريش النسر من خفة على الأصابع. وهو أيضًا مؤسس لمدرسة موسيقية أعطت استقلالية للغناء الأندلسيّ وطابعًا هوياتيًا واضحًا.

وقد نقل زرياب الكثير من الصور الحضارية المشرقية في قصور العباسييّن لتكون بين الملوك وعامة الناس في الأندلس؛ إذ يرجع الفضل له في تعليم الأندلسيين صروف الاتيكيت في تناول الطعام، ومن مآثره انه علّمهم طُرق الطهي العراقية وضرورة الترتيب في تقديم الأطعمة بدلاً من وضعها دفعة واحدة، كما ابتدع تنسيق الموائد وتنظيمها من حيث ترتيب الصحون واتخاذ السكاكين والشوك والملاعق، وحسن ترتيب المائدة وتقديم الأطباق، فيبدأ الآكل بالحساء أو المقبلات ثم بالخضروات واللحوم ثم الحلوى والفاكهة، وهكذا.

ولزرياب أيضًا يعود ىستخدام آنية الزجاج على آنية الذهب والفضة كنوع من التفضيل للفائدة الصحيّة وللجمال المظهريّ، كما كان يؤثر افتراش البسائط والموائد بالجلد الناعم على قماش الكتّان وقد دعى الأندلسيين لذلك، وكان يختار سُفر الأديم أو ما يمكن أن نسميه بالجلد الرقيق ليكون فرشًا على موائد الخشائب عند توزيع الأطعمة، وعلّة ذلك سهولة تنظيف الأوساخ ومسحها عليه أكثر من القماش الذي يلتصق فيه الطعام، تمامًا كما تفعل أمهاتنا اليوم بفرش البلاستيك الخفيف على الطاولات ليسهل تنظيف المكان.

ومن السنن الحضارية التي جلبها زرياب من المشرق ونقلها في الأندلس سُنة استعمال مزيل العرق الذي لا يترك وسخا على الملابس، إذ إن ملوك الأندلس كانوا قبل زرياب يستخدمون الورد والريحان من ذوات البرد فقط، فكانت ملابسهم لا تسلم من الأوساخ. وعندما جاء زرياب حمل لهم سنة استعمال المرتك الذي يطرد الروائح السيئة مع ترك المكان نظيفا زكيا دون بقع؛ وقد كانت ثيابهم قبل لا تسلم منها. كما أن زرياب ادخل الى الأندلس من المشرق أفضل طرق تبييض الثياب بالملح . ولما جربوها أصبحت سنة فيما بعد بفضله.

يذكر التلمساني صاحب نفح الطيب، أن زرياب جمع العديد من الخصال المميزة حتى اتخذه ملوك الأندلس وخواصهم قدوة في ما يسّن من آداب أو مظاهر للتمدّن، ومن ذلك طرق تهذيب الشعر وقصه، حتى إنه سنّ ما يعرف اليوم بالخطوط العريضة للموضة والتي درجت بعد ذلك في أرجاء العالم مع تقلّب فصول السنة، إذ كان الأندلسيون قبل زرياب يرتدون ذات الثياب طيلة العام، ومع قدومه من المشرق جلب معه عادة تغيير الملابس وأنواع القماش وألوان الثياب حسب الفصول، وليس في ذلك ترف جماليّ وانشغال بالدنيا بقدر ما هو توظيف يتماشى مع الحالة المناخية.

كل هذه الصور المدنية وسواها مجرد سلوكيات تظهر التفاعل الإنساني الحضاريّ بأرقى أشكاله، وجميعها تتناقض مع تلك اليوتوبيا المتخيلة عن المجتمع "الإسلامي" النقيّ الذي يقدمّه الوعّاظ مسلوخًا عن هذه المظاهر. فإن كان أبرز ما يجذب الناس في سيرة الأندلس سحر التمدن والتحضّر- والتي هي من صلب جوهر الأندلس، فماذا سيتبقى في مخيالهم الجمعي عنها مع نزع كل هذه الصور وإنكارها؟ ماذا سيتبقى إذاً؟

(فلسطين)

المساهمون