رونو باريه: كينشاسا جعلتني آخر فصرتُ جزءًا من ديكورها

رونو باريه لـ"العربي الجديد": كينشاسا جعلتني آخر فصرتُ جزءًا من ديكورها

20 مايو 2019
رونو باريه: هدم الجدار غير المرئي (Getty)
+ الخط -
مع "النظام ك."، يوجّه المخرج الفرنسي رونو باريه رسالة حبّ إلى كينشاسا، عاصمة "جمهورية الكونغو الديموقراطية"، بتصويره فنّاني الشوارع، الذين يحتلّون الحيز العام للتعبير عن غضبهم على طريقتهم الخاصة، وسط الفوضى السياسية والاجتماعية التي تسود المدينة الأفريقية. هؤلاء الفنّانون لا يطمحون إلى أي اعتراف بمواهبهم، ولا يتوقون إلى العالمية. هدفهم التغيير من خلال لغة الفنّ غير العنفية، التي يؤمنون بها. جلّهم يخلق فنّه في ظروف صعبة، لكنها تحفّز على الإبداع، في أقسى الضغوط السياسية.


عن هذا الفنّ، الذي لا يستند إلى مرجعية، ويمكن اعتباره فنًا مباشرًا في تأثيره على المتلقّي، أنجز مخرج "بندا بيليلي" وثائقيًا، يبتعد قدر الإمكان عن الاستغلال، مُشكِّلاً صورة مغايرة عن شعبٍ يحاول النهوض بوسائل بدائية.

بعد عرض فيلمه هذا في "بانوراما" الدورة الـ69 (7 ـ 17 فبراير/ شباط 2019) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي"، أجرت "العربي الجديد" حوارًا مع رونو باريه.

(*) العرض العالمي الأول للفيلم كان في برلين. هل لاقى الإعجاب؟
ـ أعتقد ان المُشاهدين أحبّوه. النقاش بعد العرض كان مُشوّقًا. شدّهم هذا العالم الذي لا يعرفون عنه الكثير. يجهلون كلّ ما يحصل في هذه البلدان البعيدة عنهم. نظرتنا إلى الدول الأفريقية وعواصمها محدودة جدًا. كينشاسا مدينة خاصة جدًا، يحدث فيها الكثير. ما أصوِّره هنا هو الكيفية التي يحتلّ فيها الفنُّ الحيّزَ العام أو الشارع. هذا جديد في كينشاسا. أعتقد أن الجمهور تفاجأ، إذْ إنّ العنف خبز يومي لهؤلاء الفنانين الذين نراهم أثناء القيام بعملهم، يحتجّون ويعادون السلطة الحاكمة في بلدهم.

هذا واقع جديد تَوَلّد مع نشوء جيل جديد من الفنانين، الذين اختفى عندهم الخوف، ووظّفوا الشارع، واستعملوا أجسادهم لتمرير رسائل سياسية، طمعًا بالتغيير في بلدٍ أغلبية سكّانه غير متعلّمة، وبعض هؤلاء لا يعني الفنّ لهم شيئًا. عندما تحدّثهم عن فنان، يعتقدون أنك تتحدّث عن موسيقيّ في فرقة. الفنّانون الشباب يشقّون طريقهم مهما كلّف الثمن، ومن دون أي أفق. أوضاعهم الاجتماعية متفاوتة. فريدي تسيمبا، الشخصية الرئيسية، فنانٌ مُكرَّس. هو الوحيد الذي بإمكانه أن يعتاش من فنّه. وكما يقول في الفيلم، نجح في هدم الجدار غير المرئي، لكن تطلّب هذا وقتًا كثيرًا.

مقابل واحد مثله، هناك آلاف لا يصلون إلى مكان. صحيح، إن هذه حال العالم في كلّ مكان. لكن وضع الفنان في كينشاسا أصعب، لأن عليه أن يتدبّر أموره بنفسه. عليه دائمًا الالتفاف على الأشياء. هناك عدد هائل من الجدران، على فنّان شاب من كينشاسا أن يهدمها.



(*) لكن، أساسًا، ما الذي حملك إلى كينشاسا؟
ـ عام 2003، زرتُ كينشاسا للمرّة الأولى. رافقتُ صديقة صحافية. من اللحظة التي وطئت قدماي فيها أرض تلك المدينة، قررتُ البقاء. مكثتُ في كينشاسا ثمانية أعوام متتالية. بدأتُ أصنع الأفلام، مع أني لم أكن سينمائيًا. ثم بدأت تسجيل ألبومات موسيقية، مع أني لم أكن منتجًا. كينشاسا جعلتني شخصًا آخر.

إنها مسألة تكافلية. اليوم، بتُّ جزءًا من ديكور المدينة. أساسًا، رغبتي في أشياء أخرى رمتني في أحضانها، بالإضافة إلى أن الوقت لم يكن متوفّرًا لي. في البداية، كانت صدمة. بعتُ شركة العلاقات العامة التي كنتُ أملكها، وانتقلتُ للعيش فيها. مذاك، أنجزتُ أفلامًا عدّة، كلّها عنها. أعتقد أني لم أكن لأصبح مخرجًا لو لم أعش ما عشته فيها.

(*) من الواضح أنك تعرف الأرض جيدًا.
ـ أعمل على "النظام ك." منذ أربعة أعوام. لكن تماسي بكينشاسا أبعد زمنيًا. هناك بارانويا تولّدها الصورة. إذا أخرجتَ آلة تصوير من جيبك، ربما تُحتَجز على ذمّة التحقيق، إذا لم تكن تعرف الأرض وكيفية التحايل. استطعتُ تصوير فنّاني الشوارع، لأني أجدتُ الانغماس طويلاً في هذه الأجواء. كوني مخرج "بندا بيليلي" (مهرجان "كانّ، 2010" - المحرِّر)، كثرٌ من داخل الغيتّو الفنّي يعرفوني، ويعلمون أني لستُ صحافيًا، لأن الصحافة كلمة أشبه بشتيمة عندهم.

لطالما عكست الصحافة صورة سلبية عنهم: جرائم وفساد وعنف. لا أحد يذكر الكونغو في وسائل الإعلام العالمية إلا في إطار الكلام السلبي. لكن أهل كينشاسا فهموا أني لستُ صحافيًا. كنت أقرب إلى عازف قيثارة يتجوّل مع آلته، لكني أحمل كاميرا بدل القيثارة. يجب القول أيضًا إن الفنّانين الذين صوّرتهم أشخاص متفهّمون، يتفاعلون معك ما إن يفهموا ما تريده منهم.



(*) لكنك لا تنجز تحقيقًا صحافيًا. الفيلم موغل تمامًا في السينما، ويحمل جمالياتها كلّها، من الصورة إلى الإخراج وكيفية مقاربة الشخصيات. كلّ شيء محكم.
ـ يترك الفيلم هذا الانطباع. لكن لا. لا شيء محكم البتّة. لم أعتمد إلا على الجغرافيا الطبيعية للمدينة. في النهاية، هؤلاء الفنّانون جميعهم، الذين يقدّمون عروضهم، لا ينتظروني. لا أنظّم مشاريعهم، بل أتبع جدولهم. لا أعرف مسبقًا ماذا سيحصل، ولا أملك منهجًا يُخوّلني أن أعلم. ربما تعتقد، وأنت تشاهد الفيلم، أن هناك خطة عمل. لكن، ثِقْ بأني ركضتُ كثيرًا كي أتمكّن من التصوير، من دون أن تكون لي خطّة. أما الفوضى العارمة في كينشاسا، فنشعر بها ونلمسها. عندما أتجوّل في شوارع باريس أو برلين، تبدو الأشياء صامتة لا حركة فيها. ليست هذه حال كينشاسا، المليئة بالأصوات والألوان، إلى درجة المبالغة أحيانًا.

(*) هل استطعتَ أن تعرف رأي السياسيين في عملك؟
ـ السياسيون لا يدلون بتصريحات. هم يخفون أنفسم. على كلّ حال، لا يهتمون بما يحصل في الشارع. ما يهمّهم بشكل عام هو أن يكسبوا أكبر كمية من المال بأسرع ما يُمكن. طالما أن الفنان لا ينتهك السلطة، لا مشكلة. الفنّانون من جهتهم يعلمون أن رئيس الجمهورية، على غرار مَن سبقه، ليس سوى دمية لدى القوى العظمى. الشعب يعرف جيدًا أن الرئيس باقٍ في الحكم، لأن الغرب راضٍ عنه، لكنه سيلقى مصير القذافي إذا تغيرت السياسة. المصالح الاقتصادية كبيرة جدًا في الكونغو. الناس لا يحتجّون ضد حكّامهم، لأنهم يعرفون جيدًا أنهم ليسوا أصحاب قرار.



(*) ما لفتني أن هؤلاء الفنّانين لا يملكون موديلاً غربيًا جاهزًا، بل ينبشون في ثقافتهم.
ـ كلامك صحيح. هذا ما أغواني فيهم منذ البداية: حقيقة أن ليست لديهم أية مرجعية. هذا عظيم. لا يُمكن أن تُشبّه هذا الشيء بشيء آخر. لا أحد منهم سمع بحركة الـ"أكسيونيزم" النمساوية، أو بعض المدارس الفنية الأخرى. الفنّ يخرج من باطنهم بطريقة غريزية. ينظر المرء إلى أعمال فنية لهم، ويقول: "شاهدتُ هذا سابقًا". لكن، من المؤكد أن صاحب العمل الفني لم يشاهد العمل المُشار اليه، بل لجأ إلى غريزته. المشهد الفنّي في كينشاسا أصيل، لم يتوارثه هؤلاء الفنّانون من أجدادهم، خلافًا للغرب المزدحم بالمرجعيات الفنية إلى حدّ الاختناق، وإلى درجة أنه بات يصعب النظر إلى الأشياء ببراءة. لذا، لا يزال فنّ الشارع في كينشاسا محافظًا على المستوى الأول من القراءة. لا يمكنك القول إنه فنّ ساذج، لأنك بذلك تفرض عليه مرجعية.

عمومًا، ما يلفت في هذه التجربة هو توريط الجسد في خدمة رسائل سياسية واجتماعية سلسة، يتلقّفها الناس بشكل ممتاز. يعلم الناس جيدًا أنه لا يمكنهم الغناء، لأن هذا يُسبّب لهم متاعب. لذا، يلجأون إلى الجسد لتلافي الرقابة المفروضة عليهم. لكن الفارق بينهم وبين الآخرين هو أن التزامهم السياسي موجّه إلى شعبهم فقط. لا ينتظرون منك لا التصوير ولا نقل قضيتهم إلى العالم. يُقدِّم المئات يوميًا عروضهم من دون أن تُوثَّق أبداً.

(*) إنه الفنّ بصيغته المباشرة.
ـ تمامًا. إنه الفنّ الذي ينمّ عن شيء ملحّ ينبغي التعبير عنه. الناس في كينشاسا فنّانون بالفطرة. يوميًا، يخلقون أسمى الأشياء: البقاء. هم مُجبرون على ذلك، لأن لا شيء على ما يرام في بلدهم. كلّ شيء بالمقلوب. هذا يحضّ الناس على ابتكار إمكانات العيش السليم. أب لخمسة أولاد عليه أن يخرج صباحًا، لتأمين الطعام لأولاده، علمًا أن لا وظائف. هنا يبدأ "أداء" الأب. هذا أداء يتكرّر مع 13 مليونًا من سكّان كينشاسا. الفنّانون يستمدّون أداءهم من الحياة اليومية للناس. من أهدافهم النبيلة ورغبتهم العميقة في تطوير المجتمع. بقاء الشعب جاهلاً يُشعرهم بغضب شديد. تخيّل أن جيلين من الأطفال لم يرتادوا المدرسة. الأمر أشبه بقنبلة موقوتة، خصوصًا أن عددهم كبير. يسأل أحدنا عن سبب هذا الإهمال في بلدٍ يملك ثروات طبيعية، ويستطيع بسهولة فرض نظام تعليمي مجاني. نظرًا إلى وجود مصالح اقتصادية، لا أعتقد أن الفوضى في الكونغو مجرد صدفة. الشعب الذي لا يتعلّم مُفيدٌ جدًا لبعض الأنظمة.

دلالات

المساهمون