رواية المسيح

14 ابريل 2014
+ الخط -

قبل أيام، وعلى ناصية مكتبنا في وسط لندن، حيث يصطدم المهرولون إلى أعمالهم بالذين يكلِّمون أنفسهم، بالذين يمدّون أيديهم أمامهم لعل قطعة نقدٍ توضع فيها، كان هناك رجل يستحكم في زاوية، لا يزحزحه عنها هؤلاء أو أولئك، يمدُّ يديه إلى المارَّة ولكن ليس استعطاء ولا سؤالا، بل العكس، عارضا عليهم، مجانا، كتابا من أقدم الكتب. رأيت الحرف العربي لامعا، بلون ذهبيٍّ ساطع، على غلاف الكتاب الذي يعرضه، بصمتٍ، على مارَّة لا يتوقفون كثيرا، فاقتربت من الرجل، الذي بدا في الخمسينات من عمره، وأخذت نسخة من الكتاب، وقبل أن أشكره بادرني بالعربية قائلا: حضرتك.. خد الكتاب ده كمان!

ومدَّ يده إلى علبة بجانبه، وقدَّم لي كتابا آخر باللغة العربية، قرأت عنوانه فلم يستهوني، فقلت له: شكرا، يكفيني الكتاب الأول.

الرجل، كما تلاحظون من كلامه، مصري.

أما الكتاب الذي يعرضه، في شارعٍ يعرف أن العرب يمرّون به في طريقهم إلى "مربط خيلهم" في "إجور رود"، حيث تتعالى اللهجات العربية من جانبي الشارع، وتفوح روائح الشيشة والفلافل والشاورما، فهو "العهد الجديد".

***

مضى وقت طويل على آخر مرة قرأت فيها "الإنجيل".. أو للدقة، بعضه، لأني لم أقرأه كاملا من قبل، فيما قرأت "العهد القديم" (التوراة) أكثر من مرة وفضَّلته (لأسبابٍ أدبيةٍ خالصة) على "العهد الجديد"، وخصوصا "نشيد الإنشاد" الذي تعلّقت به، في فترة مبكرة من حياتي الأدبية والعاطفية. هذه المرة قلت سأقرأ "الإنجيل" كاملا. وهكذا فعلت على مدار أسبوع من رحلتي اليومية بالقطار من البيت إلى العمل.. وبالعكس.

كنت أعرف أن هناك تشابها بين الأناجيل الأربعة التي تكوِّن "العهد الجديد": متّى، مرقص، لوقا، يوحنا (فضلا عن أعمال الرسل)، لكني لم أكن أعرف أن التشابه يصل، أحيانا، حدَّ التطابق الحرفي. فرغم أن كل "إنجيل"، من الأربعة، يروي جانبا من حياة المسيح ونبوَّته ومعجزاته وصولا إلى صلبه، غير أنها تكاد أن تكون كتابا واحدا ترويه أربع شخصيات. كأن ثمة من طلب إلى التلاميذ الأربعة أن يروي، كل واحد منهم، ما يعرفه عن المسيح، من دون أن يطلع أحدهم على ما كتبه الآخر، فجاءت "الشهادات" متشابهة في جانب ومختلفة في جانب، تبعا لعلاقة كل واحد منهم بالسيّد.

لا جديد، بالطبع، في تشابه الأناجيل، لمن قرأها من قبل، وربما لا جديد في ما يخص "لعبتها" السردية، إن جاز التعبير. فالإنجيل من أكثر الكتب التي أشبعت بحثا وتحليلا، دينيا وسرديا، شرقا وغربا، ولكن ما لفت نظري، وأنا أقرأه، شبهه برواية "قصة موت معلن" لغابرييل غارسيا ماركيز لجهة حركة المسيح داخل "النص" الإنجيلي، وحركة سانتياغو نصار، بطل رواية ماركيز. ففي رواية "قصة موت معلن" يعرف كل أبناء بلدة سانتياغو نصار أنَّ الموت يترصَّده في إحدى الزوايا، فيما هو غافل عن ذلك، بينما يسعى المسيح، كما يعكسه الإنجيل، إلى موته على رؤوس الأشهاد.

في الإصحاح السادس عشر من "إنجيل متّى" يبدي المسيح، لأول مرة، رغبته في الذهاب إلى "أورشليم" كي "يتألم كثيرا من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل، وفي اليوم الثالث يقوم". يبدو هذا الموت كأنه فعل مقرر سلفا، لا محيد عنه، وليس على المسيح سوى أن ينصاع إليه من دون أن يقبل عليه اعتراضا من أحد. فها هو يقول لحواريه: "ها نحن صاعدون إلى أورشليم، ابن الانسان يسلَّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ويسلّمونه إلى الأمم لكي يهزأوا به ويجلدوه ويصلبوه، وفي اليوم الثالث يقوم".

لا يتمكن أحد من دفع الموت عن سانتياغو نصار، رغم أنه يمرّ بينهم، فيما المسيح لا يتردد عن الإقدام على الموت، باستفزازه كهنة اليهود وأحبارهم الذين يعرف أنهم سيوصلونه إلى الصليب. لكن ميتة المسيح، عكس أي ميتة أخرى في العالم، لا تنتهي بالقبر بل بالبعث والقيامة.. من بين الأموات قبل أن تقوم القيامة.

ليس الموت، وحده، تضحية المسيح في سبيل افتداء البشر من "خطاياهم" وإنما الصلب وعذاباته.

والصلب والموت والبعث تذكرنا بإله قديم آخر صُلب، ونزل إلى العالم السفلي، ثم قام ثانية هو: تموز.

وهذه حكاية أخرى.

E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن