رهانات "الإسلام الفرنسي"

رهانات "الإسلام الفرنسي"

11 أكتوبر 2015
(باريس: ساي، 2015)
+ الخط -
ينطلق الباحث الفرنسي، إيمانويل تود، من مظاهرات 11 يناير/كانون الثاني 2015 عقب الاعتداء الإرهابي على صحيفة "شارلي إيبدو"، لتحليل ما يعتبره أزمة دينية في فرنسا، إذ يرى أن المشهد الديني في فرنسا في 2015 مشهد اللا إيمان، فبين 1960 و1970 كانت نسبة الأطفال، الذين يولدون خارج الزواج، 5.5% مقابل 55% اليوم. أما نسبة ممارسة العبادات الكاثوليكية فلا تتجاوز 13%.

من هم المتظاهرون اجتماعياً، من أين أتوا؟ الإجابة على هذين السؤالين البسيطين تسمح لنا بتحديد فرنسا، التي حشدت نفسها في 11 يناير/كانون الثاني، والتعرف على عدو قديم بداخلها، قيد التشدد، أصولي على طريقته الخاصة. يحلل تود التوزيع الجغرافي للمتظاهرين موضحاً أن المراكز العمرانية الكبرى ذات الغالبية السكانية من العمال اليدويين لم تتظاهر، على عكس تلك التي تسكنها الطبقات المتوسطة والعليا، مبيناً تعبئة في المناطق الفرنسية الأكثر كاثوليكية. ويقيم علاقة بين هذه المظاهرة وأوروبا قائلاً إن القوى التي تظاهرت هي نفسها التي صوتت لمعاهدة ماستريخيت في 1992، وهي من يتحكم في زمام الأمور في فرنسا.

أما الأوساط الشعبية والمنحدرون من عائلات مهاجرة الساكنون في الضواحي فأُلزموا الصمت وكانوا غائبين في جلهم عن المظاهرات. وعليه فالجمهورية التي تظاهر هؤلاء للدفاع عنها ليست جمهورية جميع المواطنين. ولم يكن الجزء الآخر من فرنسا حاضراً في هذه المظاهرات. فالفئات الشعبية لم تكن "شارلي"، وشباب الضواحي، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، لم يكونوا "شارلي". شارلي ليس كل فرنسا، لكنه يتحكم فيها كما في دولتها. إلا أن الطبقات المتوسطة أبعد من أن تحمل اليوم القيم الإيجابية للأمة لتخليها عن مبدأ المساواة، كما أنها أقرب من الأساس الكاثوليكي الفرنسي القديم منها من التقليد العلماني. وعليه، فمن سار في هذه المظاهرات ليس العلمانية القديمة، وإنما تحول للقوى التي ساندت في وقت مضى الكنيسة الكاثوليكية (في وجه العلمانية). إذا، هناك توافق بين معدلات التظاهر مع الخريطة القديمة للكاثوليكية. ويتساءل الكاتب لماذا المناطق، التي تساند اليوم بقوة المشروع الأوروبي والعلمانية، هي نفسها التي حين كانت كاثوليكية، أمدت مناوئي دريفوس (ضابط فرنسي اتهم زوراً في 1894 لأنه يهودي) ونظام فيشي (العميل للنازية) بالجزء الأكبر من مسانديهم؟ ويرى أن العلمانية الفرنسية تمزج بين ثقافة اللاإيمان الموجودة في المركز مع شرائح واسعة بقيت كاثوليكية في الأطراف.

يقول تود إن هناك بحثاً في المجتمع الفرنسي عن خصم محدد في الإسلام الموجود في الضواحي، وغير المنظم. "دون إهمال الوجود الحقيقي للأصولية المسلمة أو الإرهاب"، علينا، يضيف تود، الإقرار بأن "فرنسا اللامؤمنة" بحاجة "إلى كبش فداء ليحل محل كاثوليكيتها التي لم تعد قابلة للاستعمال". ومن ثم فشيطنة الإسلام تلبي حاجة ذاتية لمجتمع لم يعد كلياً مسيحياً.

وبدون هذه الفرضية لا يمكن فهم تظاهر هؤلاء للدفاع عن الحق المطلق في رسوم كاريكاتورية لرمز يحترمه أكثر من 5% من سكان فرنسا الأكثر ضعفاً وانكشافاً. يكشف التركيز على الإسلام حاجة مرضية للفئات المتوسطية والعليا من المجتمع لكراهية شيء ما، شخص ما، وليس مجرد خوف من تهديد يأتي من أسفل المجتمع. فهؤلاء المتظاهرون اجتمعوا لتقديس العنف الإيديولوجي في حق دين أقلية آخر، الإسلام، إذ لا يمكن فهم شارلي إلا في علاقاته بالديني. فالمزيد من الإلحاد المناضل يؤدي إلى المزيد من الإسلاموفوبيا، التي تؤدي بدورها إلى المزيد من معاداة السامية. فبعد عقد من تقدم الإسلاموفوبيا، المنتشرة في أوساط الطبقات الوسطى، ظهرت معاداة السامية في الضواحي، في أوساط الشباب المنحدر من عائلات مهاجرة مغاربية. والقوى الموجودة في صميم شارلي تحدد موقفها بالعلاقة بالإسلام، وهي سليلة قوى أنثروبولوجية لم تكن لطيفة مع اليهود.

يقول تود إن الحزب الاشتراكي روسوفوبي، وحزب الاتحاد من أجل الحركة الشعبية (اليميني) إسلاموفوبي، ولكن روسوفوبيته أقل تشدداً. أما حزب الجبهة الوطنية (المتطرف) فأوروفوبي وإسلاموفوبي وروسوفوبي. فهذا الحزب كان يركز على العربي لأن الإسلام لم يكن هاجساً اجتماعياً. وعليه فمفهوم الإسلاموفوبيا لا يمكن تطبيقه على العقدين الأخيرين من القرن الماضي. لكن فيما بعد عوض العربي بالمسلم، مشيراً إلى اختلاف العربوفوبيا الشعبية عن الإسلاموفوبيا البورجوازية. والإسلاموفوبيا منتشرة في أوروبا، وأوروبا البروتستانتية هي السباقة. فالدانمارك بدأ بالصور الكاريكاتورية، قبل شارلي، وألمانيا بقضية الختان، التي بينت التوافق بين الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية.

ويرى تود أن فرنسا أمام خيارين في علاقاتها مع الإسلام. إما المواجهة التي ستضعفها وستفرغها من جزء من طاقاتها الشابة وستجعلها في عزلة دولية، مستدلاً برفض الصحافة الغربية والدولية نشر الرسوم الكاريكاتورية التي نشرها "شارلي إيبدو" في أول عدد له بعد الهجوم عليه، أو العودة إلى الجمهورية بالتأكيد على القيم الأساسية: حرية المساس بالذات الإلهية وحق المواطنين الفرنسيين، مسلمين أو غير مسلمين، الذين لا يقبلون ذلك بالتعبير عن رأيهم دون أن يتهموا بتمجيد الإرهاب؛ الاندماج؛ المساواة بين المرأة والرجل. يجب أن يُدمج الإسلام ويُقبل كمكون من مكونات المجتمع، كما كان الأمر بالنسبة للكنيسة من قبل. إنه التزام بالعودة إلى ماضي الجمهورية الحق.

(كاتب وباحث جامعي جزائري في فرنسا)

المساهمون