رمال التصنيفات المتحركة

رمال التصنيفات المتحركة

28 فبراير 2016

سوريون أكراد يتظاهرون في القامشلي ويرفعون صور أوجلان (14فبراير/2016/Getty)

+ الخط -
في إطار المحرمات التي كانت منتشرة في المشهد السياسي، كما الثقافي، في سورية، خلال عقود، حازت المسألة الكردية على موقع متقدم. وحيث ساد، طوال هذه العقود الممتدة منذ ستينات القرن الماضي، جو سديمي من القمع الذي طاول التعبير والحوار السياسي المجتمعي، كما الإنتاج الثقافي في أشكاله المتعدّدة من اللغة وحتى الموسيقى، كانت القضية الكردية على رأس قائمة ضحايا هذه الممارسات المنهجية، لا فرق فعلياً إن قامت هذه الممارسات على أسس عقائدية، أو لأهداف "أمنوقراطية" بحتة.
وعلى الرغم من أن القمع شمل طوال تلكم المرحلة جميع السوريين، بمختلف إثنياتهم ودياناتهم وطوائفهم، حيث كانوا سواسيةً كأسنان المشط أمام آلة الاستبداد التي رصدتهم ليل نهار، إلا أنه يحصل أن تقوم فئات معينة بتخصيص نفسها بالتميّز، كالضحية الأكبر، والتمايز بذلك عن باقي الضحايا. ويقع ذلك خصوصاً إن كانت عذابات هذه المجموعات الإثنية أو الدينية أو الطائفية، واقعاً أو شعوراً، لا تحصد ما تستحق من الإدانة، وإذا كانت آلامها أيضاً لا تحظى بما يلزم من التضامن من عموم المواطنين أو الرعايا، لنكون أكثر دقة.
أما مسألة ثقافة التضامن بين ضحايا الاستبداد على مختلف انتماءاتهم، فيبدو أنها لا تنفك أن تكون مساراً متعثّراً في المجتمعات التي عمّقت آلة القمع من الفجوات بين مكوناتها وجعلتهم، حتى في عذاباتهم، درجاتٍ ليتجادلوا وليتمايزوا. حتى أن ثقافة التنافس في مستوى المظلومية، والتشديد على "أنا الضحية" أكثر، انتشرت طويلاً في حوارات السوريين، مهما تنوّعت مواضيعها. ولكنها تطورت بشكل كبير مع انطلاقة ثورتهم السلمية، قبل وصولها إلى المآلات المسلحة، وانتقالها إلى مرحلة المقتلة العبثية، فقد بدأ الحديث لدى بعضهم عن السنوات التي أمضاها في المعتقل كما لو أنها المفتاح للتميّز عن الآخرين على المستوى الشخصي، وعلى مستوى "الشرعية" الثورية، أو القيادة الميدانية. أما في الحقل الجمعي، فقد تطورت لغة المظلومية لدى مكونات الأغلبية المذهبية، لتسرد ما وقع فيها من عمليات قمع وتهجير، خصوصاً في مرحلة نهاية سبعينيات القرن الماضي وبداية ثمانينياته، حيث وقعت الأحداث الدموية في غفلة عن أعين العالم، والتي نأى سوريون كثيرون بأنفسهم عن الشعور بها، أو التساؤل عن مصائر ضحاياها.
وفي المقابل، اعتبر الأكراد، عن حق ربما، بأن مظلوميتهم تتجاوز باقي المكونات السورية،
لأنها عابرة للحدود وللأنظمة وللعقائد. وبدا، في إطار كل حوارٍ يبحث عن الهدوء والعمق في التحليل، بروز مسألة "الحزام العربي" (1965)، والذي سعت من خلالها السلطة المركزية إلى إحلال سكانٍ عرب في المناطق الحدودية الشمالية، ذات الغالبية الكردية حينها، كما مسألة الحرمان من الجنسية (1962) والتي صار بموجبها آلاف من الأكراد "عديمي الجنسية"، وما ترتب عن هذا من نتائج قانونية وإدارية. وأخيراً، وليس آخراً، تكون أحداث 2004 التي تلت مباراة كروية، وسقط إثرها عشرات من الضحايا الكرد بين قتيل وجريح مرجعية داعمة للمظلومية الكردية.
هذا المزيج المحمّل بجرعات كبيرة من المأساة التي عاشها الأكراد سورياً على الأقل، برزت في الخطاب الجمعي الكردي على درجاتٍ متفاوتةٍ مع انبثاق الحركة الاحتجاجية السورية. وقد تم الاستناد بشدة على حجة، شرعية ظاهراً وسياسوية باطناً، تُشير إلى انعدام تضامن الغالبية العددية السورية، بمختلف مكوناتها وتلاوينها العقائدية، مع المسألة الكردية في الماضي عموماً لمحاولة إيجاد مبرراتٍ "منطقية"، تشرح العزوف الكردي عن الانخراط في المسار "الثوري" القائم. وعلى الرغم من أن هذا العزوف لم يكن خياراً جماهيرياً، بل قيادياً، فرضته بعض القوى المسيطرة على القرار السياسي الكردي. حيث تبحث هذه القوى عن مكاسبَ سياسية، ربما تُثبت الأيام أنها مؤقتة في إطار الألعاب الإقليمية والدولية التي ما فتئت تُغري القوى المغبونة بالانخراط فيها، لتجد نفسها على صف الاحتياط في أثناء اقتسام "كعكة" الانتصار. وقد أثبتت الوقائع أن من اعتبر أن مسألة الحريات والحقوق أوسع من أن تتوقف عند مسألة الانتماء الضيق، دفع ثمناً باهظاً لقناعاته، كما مشعل تمو الذي اغتيل في نهاية العام 2011.
بدأ السجال السياسي في الأشهر القليلة الماضية، بخصوص القوى المسلحة الكردية الفاعلة على الأرض، ومدى ارتباطها بمشروع فئوي أو سلطوي أو تحرري أو غيره، يأخذ طابعاً عنفياً على مستوى الكلام، خصوصاً بتوفر وسائل التواصل الاجتماعي التي فتحت أبوابها لكل التطرف والإقصاء من كل الأطراف. وقد بلغ الاستقطاب مداه، حيث أوصل التعبيرات السياسية إلى قاع الأمراض النفسية التي تتفشى في سراديب الحروب الأهلية، حيث كل طرف هو الجلاد حيناً والضحية في حين آخر. وقد صار من سابع المستحيلات الخوض في تحليل مسألة التحالفات القائمة، بما هو واضح منها، أو بما هو مخفي. كما أن التنبيه السياسي البحت، من دون الخوض في أحكام قيمية، إلى إمكانية تحوّل بعض تحالفات اليوم إلى حروب في الغد، كما يعلمنا الاستقراء التاريخي، فقد صار جريمةً لا تغتفر، يمكن أن تجلب الويلات اللفظية، على الأقل، على من يتجرأ ويخوض فيها، وترمي به في رمال التصنيفات المتحركة.

A09B3D1D-C47E-4064-B64E-B91C5A3F06C7
سلام الكواكبي

كاتب وباحث سوري مقيم في فرنسا