رقيب يرفض القتال

رقيب يرفض القتال

07 أكتوبر 2014
اسماعيل حرب - أنور السادات - سعد الدين الشاذلي/Getty
+ الخط -

هي قصة منسية من قصص حرب أكتوبر، لكنها قصة عن بطولة من نوع آخر، بطولة الذكاء والحصافة والنظر إلى ما هو أبعد من تحت القدمين.
دعنا نتخيل أنك قائد ميداني في موقع من مواقع القتال في حرب أكتوبر، تلقيت لتوك الأمر بمهمة قتالية تتطلب عبور القناة والاشتباك مع العدو، وحين قمت بتكليف جنودك بتنفيذ المهمة، فوجئت بأحدهم يعلن رفضه تنفيذ الأمر لأنه ليس مقتنعاً به، ما الذي كنت ستفعله في موقف كهذا؟ بالتأكيد سيتجه تفكيرك إلى ضرورة إعدام هذا الجندي لكي يكون عبرة لغيره، ولكي لا يتسبب في نشر روح العصيان بين زملائه، ولن يلومك أحد لو فكرت في هذا ونفذته، لكن الفريق سعد الدين الشاذلي، بطل حرب أكتوبر، لم يفعل ذلك عندما واجه هذا الموقف الغريب في أكثر أوقات الحرب خطورة.
في مذكراته عن حرب أكتوبر، يروي الفريق سعد الدين الشاذلي تحت عنوان "رقيب يرفض القتال" تفاصيل هذه الواقعة، قائلاً "في الساعة العاشرة من صباح يوم السبت 6 من أكتوبر، أبلغني أحد قادة الجيوش هاتفياً بأن لديه ضابط صف برتبة رقيب يرفض القتال، عندما أخطر بمهمته في القتال في صباح ذلك اليوم قال لقائده: إن القتل والعنف ليسا من طبيعتي كما أنهما يتعارضان مع معتقداتي، وأنا لا أستطيع أن أقوم بتنفيذ هذه المهمة". وقد حاول أصدقاؤه وقادته أن يثنوه عن هذه الفكرة ولكنه أصر على رأيه. كان قائد الجيش في ذروة الغضب وهو يبلغني بهذا الخبر.

واضاف قائلاً إنه سوف يأمر بتشكيل مجلس عسكري عال لمحاكمة الرقيب المذكور، لكنني أخذت الموقف بمنتهى البساطة وقلت له "لا علينا إنه مجرد فرد واحد من 400 ألف رجل ـ مائة ألف منهم عبروا القناة بالفعل طبقاً لمهامهم القتالية ـ إني أعلم أن نسبة الذين يرفضون القتال في الجيوش الأخرى أعلى من ذلك بكثير، لا تشغل نفسك بهذا الموضوع أرسله تحت الحراسة إلى السجن الحربي وسوف نبحث موضوعه في ما بعد". كنت أعرف أن محاكمة هذا الشخص بمجلس عسكري عال وصدور الحكم والتصديق عليه لم تكن لتستغرق نصف ساعة، فالمتهم يرفض القتال ويعترف بذلك والإعدام هو الجزاء المنتظر لذلك، ومن الممكن أن ينفذ فيه حكم الإعدام أمام أفراد وحدته.

لقد جال هذا الشريط بسرعة في خيالي فاستبعدته، ولم أكن اريد أن أبدأ عمليتنا الهجومية بإعدام أحد رجالنا، قد يقال في ما بعد بأن المصريين لم يعبروا القناة إلا بعد أن رأوا رأس زميلهم معلقاً في الهواء، وبذلك يستطيع أعداؤنا ان يشوهوا سمعة الجندي المصري، لا لن نعطيهم الفرصة لذلك، سوف نقدمه للمحاكمة في ما بعد، سوف نحاول دراسة نفسيته لكي نعرف كيف تتولد هذه الأفكار وكيف يمكن التغلب عليها. ثم شغلتني أحداث المعركة ولا أعرف حتى الآن مصير هذا الرقيب البائس، ولكني أعتقد أن حالته جديرة بالدراسة العلمية والنفسية".

تقرأ هذه الواقعة فتحمد الله لأن الجيش المصري كانت على رأسه يومها قيادة عسكرية تمتلك الوعي والخيال، قيادة اجتهدت فأصابت وأخطأت، لكنها كانت تدرك قيمة الإرادة الإنسانية كشرط لتحقيق النصر على العدو. لأن النصر لا تحققه الأوامر العسكرية وحدها مهما كان صدق الذين أصدروها، بل يتحقق بإرادة المقاتل واختياره تغيير واقعه المرير، لأنه لو كان مهزوماً من داخله لما انتصر أبداً، حتى لو توفرت له أقوى الأسلحة، وحتى لو قاده أعظم القادة، لكنك أيضاً ستسأل نفسك: إذا كان هذا هو الحال في معارك السلاح العصيبة التي تتطلب الانضباط الكامل والحسم القاطع، فكيف يتصور الجنرالات الذين تصدوا لحكم البلاد بدعوى إنقاذها أنهم يمكن أن ينتصروا في معارك السياسة المعقدة دون اختلاف ولا حوار ولا نقاش ولا حصافة؟ وكيف يظنون أن النصر الذي تحتاجه مصر الآن يمكن أن تحققه نفوس لا تمتلك حق الاختلاف وعقول تشوشت بفعل الكذب الممنهج، وأرواح لا يقودها إلا الخوف من المجهول وإرادة يمتلكها فرد لا يوجد من يحاسبه أو يرده عن غيّه؟ وإذا كان السلاح قد وضع نفسه في خدمة السياسة في زمن الحرب، فكيف يمكن لبلد أن تحيا وهي تمارس كل يوم قتل السياسة بغشومية السلاح؟
belalfadl@hotmail.com

دلالات

المساهمون