رغيف الخبز: أشهى ما باحت به سنابل القمح

رغيف الخبز: أشهى ما باحت به سنابل القمح

30 نوفمبر 2014
صار للخبز الفلسطيني فرن في المخيم (Getty)
+ الخط -
فيما بعد سندرك أنّ ما أغفله المعلم في ذلك الوقت، هو نظرية العكس. حيث اكتشفنا أنّ ما من تشبيه بليغ حتى الألم، لفهم حقيقة رغيف الخبز العربي كان، أكثر من الدائرة ذاتها. ما من أحد منا يعرف أول رغيف خبز من نهايته، مركزه هي الحياة المفترضة، ومحيطه أسرٌ وحصار مفروض. أمّا مساحته فمن مساحة الأرض يكوّنها، وكلما ضاقت الأرض علينا اتسع رغيف الخبز إلى حد ما عاد بوسعنا أن ندرك طول قطره.

حين يرتفع رغيف الخبز العربي يكون قمراً أو شمساً أو إعلان انتصار، وحين ينخفض يصير جوعاً وذلاً وهواناً. طريّاً يملأ رغيف الخبز المعدة، وحين يكون يابساً يقاوم جوعها. الصحيح منه حرية، والمقسوم منه خضوع أو فقر، وكلما يبس المقسوم وكلما ازرقَّ لونه صار معادلاً موضوعياً للصمود، أو ربما صار بشارة ثورة.

زمن الحصار يكون رغيف الخبز ملجأً، هكذا تعرفت عليه من مخيم تل الزعتر حتى مخيم اليرموك.. ورغيف الملجأ يقاس باللقمة، واللقمة تعادل حياة... في الأمثال الشعبية يقولون "لقمه هنيه تكفي ميّة". وفي يوميات الملجأ، اللقمة فيه تكفي "ميّة وألف"..هي لقمة يابسة، خارج حدود الملجأ تترك للنسيان.. وضمن جدرانه تصير كنزاً، لا تحتاج إلاّ لقطرات من الماء لتصاب بالنضرة من جديد، وتمنح صاحبها يوماً من الصمود أكثر.

وفي اللجوء يصير الرغيف جواز سفر أو وطن... كانت أمي الحاجة عزيزة العلي تلملم طحينها من الإعاشة لتصنع لنا خبزاً فلسطينياً، بعدها صار للخبز الفلسطيني فرن في المخيم نقصده لنتذوق الحنين. ومع الاحتلال الأميركي لبغداد صار للخبز العراقي فرن في المخيم أيضاً.. هكذا كثرت الأفران التي تصنع خبزاً بطعم بلادها المحتلة.. لا أعرف لماذا كلما سقط بلد عربي كان علينا أن نعد لخبزه فرناً؟ أتراه كان رغيف الخبز الوطن البديل...؟
في السياسة رغيف الخبز مرٌّ مذاقه، وبعيداً عنها كان رغيف الخبز الساخن كوجه امرأة مشتهاة، ومن لا يضحك لرغيف الخبز الساخن، ما عرف الضحك وما عرف شهوة للحياة. رغيف الخبز الساخن شهادة أنك تعبت في حصوله بعد انتظار يمتد بطول طابور المشترين. أمّا الخبز البارد فهو عنوان الكسل، هو حيادي تجاه كل شيء إلاّ الشبع، فلا طزاجة في طعمه يسيل لها اللعاب، ولا شهوة في شكله لتعشقه العين. في السياسة، رغيف الخبز انتماء وحدود وحنين وعقاب، وبعيداً عنها، هو مؤشر اجتماعي واقتصادي، يقسّم الناس كلاً وخبزه، والخبز طبقات؛ قمحٌ وشعير، أبيض وأسمر، مدعوم ومسحوق...

الخبز مثل العشق، للناس فيما يأكلون منه مذاهب. محظوظ فينا من يعشقه الخبز، لا تهون عليه نفسه ولا تعرف الذل.. وتعيسٌ فينا من يعشق الخبز من طرف واحد، يهدر عمره خلفه بالجري.
في السياسة، رغيف الخبز يأخذ شكل الممكن والمتاح، دائري للمراوغة، مربع للمفاوضات، مثلث للحشر في الزوايا. وبعيداً عنها لا نعرف شكلاً للخبز إلاّ الدائري. ربما لهذا السبب لم يدرك أهلنا في البداية أن خبز "الصمون" الكندي أو الفرنسي خبز، فلفوه بخبز التنور الدائري وأكلوه.

في السياسة، رغيف الخبز أكثر عصا وجعاً بيد الظالم والدكتاتور. وعلى مائدة التاريخ، هو سر أعظم الثورات. في الجغرافيا، هو يأخذ شكل الوطن. وفي علم الهندسة، هو أكمل الأشكال. وعلى الأرض، هو أجمل ما باحت به سنابل القمح، وهو الطعم الهارب من الجنة حين يكون على مائدة أمي.

في كل مرة يكون رغيف الخبز شرفة للمشتهى.. وشهوة عن شهوة تفرق.. شهوة تحيي النفس وشهوة تميت.

دلالات

المساهمون