رضوى عاشور.. الكتابة من المنفى

رضوى عاشور.. الكتابة من المنفى

03 ديسمبر 2014
+ الخط -

كتابتنا هنا عن إرث الكاتبة والناقدة المصرية رضوى عاشور (1946 - 2014)، التي رحلت منذ أيام، هي محاولة لتحليل موقفها الثقافيّ والسياسيّ من خلال عدسة منفوية. وإذ تبدو من الغرابة محاولة تأمّل أثر الراحلة من خلال هذه العدسة - خصوصاً أنّ الشرط العضويّ للمنفى لم يتحقق بشكل مباشر معها - إلا أنّ لذلك إضاءات كثيرة على مفهوم المنفى، ودور رضوى الثقافيّ، معًا.

يميل بعض الدارسين إلى مقاربة "كتابة المنفى" باعتبارها "كتابة مهجر"، ولكن يخفى عن هذه المقاربة فارق جليّ، وهو أنّ النوع الثاني قد حبس نفسه في دلالته الجغرافيّة، فيما ينفتح الأول على سائر التداعيات الدلاليّة والتأويليّة التي تنبثق من موقع "المنفي" في العالم.

يعرض تودوروف في كتابه "نحن والآخرون: النظرة الفرنسية للتنوّع البشري" الصلة بين "الذات" و"الآخر" في تجربة النفي، إذ يقول: "تشبه شخصية المنفي في بعض جوانبها المهاجر، وفي بعضها الآخر المُغرَّب. يُقيم المنفيّ مثل الأول في بلد ليس بلده، ولكنّه مثل الثاني يتجنّب التمثّل، وخلافًا للمُغرَّب، لا يبحث عن تجديد تجربته وزيادة حدّة الغربة".

ويضيء إدوارد سعيد هذه المقاربة بقوله: "النفي لا يقتصر معناه على قضاء سنوات يضرب فيها المرء في الشعاب هائمًا على وجهه، بعيدًا عن أسرته وعن الديار التي ألفها، بل يعني إلى حد ما أن يصبح منبوذًا إلى الأبد، محرومًا على الدوام من الإحساس بأنّه في وطنه، فهو يعيش في بيئة غريبة، لا يعزيه شيء عن فقدان الماضي، ولا يقلّ ما يشعر به من مرارة إزاء الحاضر والمستقبل".

بهذا المنطق، يمكننا تلمُّس موقع رضوى عاشور كمثقّفة منفيّة في وطنها وفي مواجهاتها الثقافيّة والسياسيّة، هي التي تقول في امتداد لعبارة سعيد الأخيرة من سيرتها الذاتية "أثقل من رضوى": "هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بالهزيمة، ما دمنا قرّرنا أنّنا لن نموت قبل أن نحيا".

ففي إعلان الهزيمة تتويجًا للموت، يتأكّد أنّ المنفى لرضوى، باعتباره انسحابًا نرجسيًا من العالم إلى "شرنقة الذات" بتعبير فرانز فانون، هو أيضًا هويّة مُكتسبة وليست موروثة بجواز سفر أو جغرافيا، هويّة تقيم على الحدود والأطراف، حدود الثقافات، حيث تتداخل وتتحاور بين الأنا والآخر، بعيدًا عن ثقل مركزية الأنا، ويتّضح ذلك جليًا من عنوان مذكّراتها. فرضوى باتت في حوارها مع رضوى أخفّ منها ومن أناها المركزيّة، لتتمكّن بالمجاز ولو كان "تتويجًا للموت" أن تحيا، وتهزم موتها.

هذه التوتّرات لرضوى بين ثقل وخفّة، هي نتيجة لاغترابها ونفورها المركّبين في الواقع ومنه، فهي التي درست الأدب الأفرو - أميركي، بكلِّ ما حملته سرديّته الأدبيّة من علاقة قمع وضبط ورقابة، تجلّت حساسيّتها كمثقّفة لنفس الآليّات القمعيّة الواقعة على مجتمعها وأفراده في سياق دولة الحكم الشموليّ؛ فازداد جنوحها إلى الثقافة الطرفيّة في المشهد الثقافيّ المصريّ أو ما يسمّى بالثقافة المتنحِّية، في مواجهة الثقافة السائدة المركزيّة، ليرتبط اسمها بالشباب، إذ كانت على تماس مباشر مع شرائح عريضة منهم.

ولعلّ أغلب من رثاها في اليومين الأخيرين كان ممّن تعرّفوا وتعرّفن إليها في "ميدان التحرير"، حيث كانت جنبًا إلى جنب مع الحراك الشبابيّ الثائر، بالرغم من حالتها الصحيّة، في حين خُذل هذا الحراك من قِبل الكثير من رموزه الثقافيّة والسياسيّة، التي سرعان ما انضوت تحت مظلّة ثقافة السلطة المركزيّة.

لم يكن هذا فقط هو ما دفع رضوى إلى أن تغدو على طرف الثقافة السائدة، تنادي بمواجهتها ومواجهة منظومتها السلطويّة، ولكن كذلك ارتباطها وزواجها من فلسطينيّ، الشاعر مريد البرغوثي، وهو كأيّ فلسطينيّ يحمل معه منفاه، ووطنه. وبالتالي، باتت صاحبة "ثلاثية غرناطة" على تماس مباشر وعضويّ مع المنفى والمنفيّ على حدّ سواء، وما استتبعه ذلك من ارتباك والتباسات وحفر في مفهومين أساسيّين هما الذات والهويّة، في تناقض مع المكان رفضًا للمنفى، وتجاوزًا له سعيًا إلى وطن، وهو ما لا يتحقق من دون ثورة.

كتابة المنفيّ هي فعل استذكار/استحضار وفعل نسيان/إخفاء في آن، وبينهما يتأسّس الارتياب الدائم في هذا المكان/المنفى، وموقع الفرد منه. فالفرد لا ينتمي حتى النهاية إليه، فيغدو المكان/المنفى وطنًا، مسلّمة ثابتة متجاوزة للزمان والمكان، في حالة من الطوباويّة العمياء، المفضية إلى شوفينيّة أو لامبالاة سلبيّة، وهو ما تعوِّل عليه الأنظمة الشموليّة لخلق مثقّفيها وعبيدها و"الجماعة التقليدية".

وهنا يُذكر أنّ رضوى لم تكن من جوقة مثقفي المركز والثقافة السائدة، بل كانت من داعمي الثورة وتيارها الثقافيّ والسياسيّ الطرفي،ّ أي الشباب، ومُناصرة لقضايا المرأة والتحرّر والمقاومة الفلسطينيّة.

لم يكن لرضوى أن تسري في قلوب هذا الجيل من تلامذتها، وقرّاءها وحتى أفرادًا - أزعُم أنهم/ن - لم يقرؤوا أعمالها بعد، لولا أنّها كانت ترفض مفهوم الهويّة الواحدة المطلقة، وما يستلزمه ذلك من موقف ثقافيّ غير مهادن، الذي يجعل المثقف دائمًا في مواجهة السلطة والمركز، وهو قدر كُتب عليه دائمًا، كما يقول إدوارد سعيد في كتابه "تمثّلات المثقف".

* كاتب من فلسطين

المساهمون