من المهم أن يكون للشتات الفلسطيني دور (العربي الجديد)
في سنوات ما بعد النكبة، علقت في ذاكرة الفتى الفلسطيني، رضا آغا، صورة مآسي شعبه في مخيم برج البراجنة (ضاحية بيروت الجنوبية) حيث ولد. وهو يحدثك عن رحلته في الحياة، كثيراً ما يذكر ترشيحا، حتى ليظنّ السامع أنه عاش في تلك البلدة الفلسطينيّة (شمال)، هو الذي ولد في الجانب الآخر من الحدود، في "البرج".
يروي: "كنت أبلغ من العمر 16 عاماً عندما قرّرت أن أصبح طبيباً جراحاً، مهما كان الثمن، إذ أحببت مادة التشريح بسبب مدرّس علم الأحياء". لكنه كان يدرك صعوبة الدراسة في لبنان وعوائق مزاولة المهنة كفلسطيني لاجئ. واندلعت الحرب اللبنانية، فرأى نفسه يتقدّم بطلب للحصول على فرصة لدراسة الطب في رومانيا.
في السنة الدراسية الأولى، احتار آغا ما بين طب الأطفال والجراحة، "لكنني عند الانتهاء منها، رحت أفكر بأنني تركت أهلي وشعبي في مخيّم. كيف يمكنني أن أساعدهم إذا عدت؟ وتخصصت في الجراحة قبل أن أعود في عام 1981 إلى بيروت". وخلال دراسته، كان ناشطاً في الحركة الطالبية وساهم في دعم الطلاب الفلسطينيين الجدد الوافدين، بحسب ما يخبر الدكتور عماد كعوش، زميله في السكن، الذي تحوّل إلى ما يشبه "المكتب التنظيمي". ويشير كعوش إلى أن زميله "تابع دراسته على حسابه، ورفض منحة في عام 1977 معتبراً أن غيره أحقّ بها منه".
قرار العودة إلى لبنان كان محسوماً بالنسبة إلى آغا، الذي رفض مغريات العمل في مشافي الخارج. رافقته زوجته الرومانية الألمانية التي كانت حاملاً في ذلك الحين. فور عودته، التحق بالهلال الأحمر الفلسطيني مباشراً عمله في مشفى غزة، الذي يضمّ قسم جراحة. زوجته القابلة القانونيّة، عملت أيضاً هناك، في قسم الولادة. يضيف: "وحدث الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 لتسوء الأمور، خصوصاً بالنسبة إلى الأجانب الذين كانوا يعملون مع الهلال". وسافر وزوجته إلى رومانيا، حيث أودعا ابنتهما عند جدتها، وعادا في وقت لاحق إلى لبنان، ملتزمين بعملهما في مشافي الهلال الأحمر الفلسطيني في مخيمات بيروت.
التجربة الأقسى، كانت حرب المخيمات (ابتداءً من عام 1985). حينها كان مسؤولاً عن مشفى حيفا في مخيم برج البراجنة. ويتذكّر "الحصار الذي استمر أشهراً، في حين كان الدمار والركام والجرحى والموت يحيط بنا في كل ناحية. كذلك نفد الوقود المخصص لتشغيل المولدات. حاولنا قدر المستطاع مساعدة المحاصرين في حين كنا مستهدفين". يضيف: "اليوم يمكنني أن أخبر أنه حتى نحصل على بعض ليترات من الوقود من خارج المخيم المحاصر، حفرنا الأنفاق. وقد لجأنا إليها لإنقاذ الجرحى المحاصرين والممنوعين أصلاً من الخروج إلى مشافٍ أخرى". ويتابع أن "أقسى ما يمكن رؤيته هو أن البشر راحوا يتناول الجرذان والقطط للبقاء أحياء وسط الحصار".
ويشير آغا إلى أن حديثه عن ذلك ليس بقصد "وصف الفظائع التي مرّ بها شعبنا، فهذه المأساة تتكرر في مخيمات سورية. هذه التجارب تجعل الفلسطينيين أكثر تمسكاً بقضيتهم، مثلما جعلتني شخصياً أكثر التصاقاً بقضيتي".
في عام 1987، ترك آغا لبنان ووجهته ألمانيا في هذه المرة، مع زوجته. لم تكن الغربة الجديدة سهلة لطبيب خارج من حالة حصار يريد الاستمرار في مهنته، وتطوير أدواته العلمية. يقول: "قدّمت أوراقي لطبيب ألماني ونسيت الموضوع. كنت أتعلم اللغة، واكتشفت أنني لا أستطيع ممارسة الطب من دون جنسية. والجنسية أيضاً تحتاج إلى عمل. دوامة أخرى".
منذ عام 1988، بدأ آغا يسعى إلى ترتيب أوراقه. وفي عام 1991 حصل على الجنسية، وراح يعمل مع الطبيب الألماني هيلبر، الذي ساعده، كطبيب جراح. وفي وقت لاحق، "تواصلت مع منظمة العون الطبي الفلسطينية ومقرّها في لندن، وأسسنا فرعاً في ألمانيا".
في عام 1995، بدأ أطباء منظمة العون ينظمون رحلات لهم إلى مخيمات لبنان، لتقدين الدعم. واستمر آغا في العمل مع هيلبر حتى عام 2001، ليفتح عيادة جراحية خاصة بالعظام والروماتيزم. وفي حديثه، يتذكّر آغا الدكتور، ناجي علايلي، الطبيب اللبناني في جامعة القديس يوسف (اليسوعية) في بيروت، والذي يعتبره معلمه في الجراحة، ومثله الأعلى في العمل الطبي التطوعي.
وذاع صيت آغا بين العرب والفلسطينيين والألمان في مهارته، وراح هؤلاء يقصدونه واثقين في خبرته. ويجول آغا اليوم بين التجمعات الفلسطينية في أوروبا، ويجري فحوصات مجانية ويقدّم النصائح في كيفية العلاج لتخطي صعوبات اللغة أحياناً بين هؤلاء، والنظام الصحي في البلاد التي يقيمون فيها.
في ندواته، التي تنظمها الجاليات الفلسطينية، لا يتحدث آغا عن المجال الطبي فحسب، بل عن أهمية أن يكون الشتات الفلسطيني صاحب دور من خلال الإقدام على العلم. ويقول: "ابن القضية يجب أن يكون قدوة، ومثالاً أعلى يخدم قضيته. وتغرّب الأجيال الفلسطينية في سبيل العلم والدراسة أو العمل، لا بد أن يكون منتجاً ويركز على مجالاته فيما يخدم فلسطين وشعبها من دون الإساءة إليها"، ويدعو العرب في أوروبا إلى استغلال الفرص التعليمية.
اقرأ أيضاً: عاطف العيماوي: اليرموك في قلبي