رسميّاً... إعلان لبنان دولةً فاشلةً

رسميّاً... إعلان لبنان دولةً فاشلةً

13 مارس 2020
+ الخط -
لم يعد المواطن اللبناني بحاجةٍ إلى معارضين يقنعونه بأن حكومة بلاده فاشلة، لكونها لا تهتم بواقعه أو بمستقبله، ولامتناعها عن الاضطلاع بدورها في تقديم الخدمات الاجتماعية والرعاية الصحية والتعليم الجيد، ولعدم سعيها إلى تأمين الفرص للعاطلين من العمل، إضافة إلى عجزها عن حل أزمات البلاد، إذ أعلنت الحكومة نفسها فشلها إزاء هذه التحدّيات، وأنها في حِلٍّ من أمرها تجاه كل المصاعب التي تعصف بالبلاد. ثم بعد إعلان عجزها، قرّرت تعليق سداد ديونٍ مستحقةٍ هذا العام، وكأنها تعلن بذلك للعالم إفلاسها، وتعلن لبنان دولةً فاشلةً، بدلاً من أن تنفي عنه هذه الصفة. وهذا إقرارٌ بواقعٍ، كان النظام اللبناني يتَّهم كل من يوصِّفه هكذا بأنه أداة جهاتٍ خارجيةٍ مغرضةٍ. 
بدلاً من أن تعلن حكومة حسّان دياب الجديدة خطةَ عملٍ لحل مشكلات البلاد، والتي أدّت إلى اندلاع الانتفاضة المطالبة برحيل النظام والطبقة السياسية الحاكمة، بسبب فشلهم في حل أيٍّ من المشكلات العالقة التي تتوارثها حكومات نظام الطوائف، أعلن دياب قائلاً، بداية مارس/ آذار الجاري، وبعد أيامٍ من نيل حكومته ثقة البرلمان: "بكل صراحة، لم تعد هذه الدولة قادرةً على حماية اللبنانيين وتأمين الحياة الكريمة لهم". عادة ما يكون هذا الخطاب خطاب حكومةٍ مستقيلةٍ، لا خطاب حكومةٍ استهلت عملها للتو. كما أنه، وللمصادفة، جاء ليؤكد موقف المتظاهرين من الحكومة وحكمهم المسبق عليها بالفشل، عند ترشيح دياب لتشكيلها، لأنها، بكل بساطة، تمثِّل نظاماً فاشلاً، أثبت عجزه منذ تكرُّسه بعد اتفاق الطائف، سنة 1989.
وعشية الكلام عن تهريب أقطاب السلطة اللبنانية أموالهم، والمقدّرة بمليارات الدولارات، إلى 
خارج لبنان، خوفاً من إطاحتهم بفعل الانتفاضة المندلعة من أشهرٍ، تأتي خطوة تعليق سداد الديون، لتشير إلى أن الدولة باتت مفلسةً. ولا يدلُّ ذلك سوى على أن هذا النظام غير مدركٍ ما يقوم به، لأنه بهذه الخطوة سيخفِّض تصنيف لبنان الائتماني، فيحرمه من القروض والاستثمارات التي يسعى إلى الحصول عليها.
ووفق المفهوم المعجمي للدولة الفاشلة، هي التي تعجز عن القيام بوظيفتها الاجتماعية، وبدورها في تأمين حماية مواطنيها من المخاطر مهما كانت. كما أنها الدولة التي تطغى فيها الطائفية والإثنية والعشائرية على المواطنة، وهذا هو حال لبنان الذي أدى غياب الدولة فيه إلى تكرُّس الطوائف دولاً ضمن الدولة، وجعل ولاء المواطنين فيها يتحوّل إلى زعماء هذه الطوائف، لا إلى دولتهم. ويقول كثيرون إن الدولة اللبنانية أعلنت فشلها، منذ اليوم الذي تنصَّلت فيه من أداء دورها برعاية مواطنيها، وتركتهم لقوى السوق تتلاعب بهم وبصحتهم وتعليمهم وعملهم، فشكَّلت حياتهم كما أرادت، ليصيروا على الصورة التي نجدهم فيها. إذ ازدادت نسبة الفقر والبطالة بينهم، ما زاد تبعيتهم زعماء الطوائف ابتغاء صندوق معونةٍ غذائيةٍ، أو فرصة عملٍ لا تأتي، كما زاد عدد المنتظرين منهم على أبواب السفارات الأجنبية لمغادرة الوطن والهجرة.
هنالك من يقول إن الدولة اللبنانية أعلنت فشلها، أيضاً، حين تنصّلت من مهمتها الدفاع عن حدود البلاد الجنوبية، في وجه خروق جيش الاحتلال الإسرائيلي واجتياحاته المتكررة للبلاد، واحتلال أجزاء منها سنوات عدة. ثم أوكلت هذه المهمة لحزب الله، وحاولت أن تُشرعن هذه المهمة لإدامتها. ثم اخترعت لها صيغة معادلة "الجيش والشعب والمقاومة"، والتي عارضها جزء كبير من أبناء الشعب اللبناني، داعين الدولة إلى الاضطلاع بدورها في مجال الدفاع عن البلاد، خوفاً من تماهي حزب الله في مؤسسات الدولة الأمنية، ما يُضعف كيان الدولة ويُصادر قرارها.
ويعاني لبنان، منذ تأسيسه، من عللٍ تكوينيةٍ مزمنةٍ، منها العلّة الأكثر إيلاماً وتأثيراً، علّة عدم فصل السلطات، وخضوع السلطة القضائية للسلطتين التشريعية والتنفيذية، بدلاً من العكس. ففي لبنان يكون المسؤول وزيراً ونائباً في البرلمان في الوقت ذاته، فهو بذلك يجمع السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية في شخصه. وفي هذا خرق للمبادئ الليبرالية في الحكم الذي نشأ لبنان على تمجيدها. وإن لم يكن هذا خرقاً لهذه المبادئ فهو خرق لمنطق العمل الحكومي، إذ سينتفي مبدأ الرقابة والمحاسبة في هذه الحالة.
ومن معايير تصنيف الدولة فاشلة، اضطرارها لطلب العون من الخارج للمساعدة في حل 
مشكلاتها، الأمنية أو الاقتصادية. فقد استعان لبنان أخيراً بصندوق النقد الدولي لمساعدته في حل مشكلاته الاقتصادية، وأهمها العجز المالي. وليس خافياً أن هذا الصندوق لن يفعل أكثر من الطلب من الحكومة العمل وفق وصفاته المدمرة، والتي تبدأ بخطوة خصخصة القطاع العام، من كهرباء وماء واتصالات ونقل وغيرها من المؤسسات السيادية، وتعويم سعر صرف العملة، ولا تنتهي بتخفيض معاشات التقاعد وتخفيض الإنفاق على القطاعات الخدمية، واستهداف قطاعي الصحة والتعليم. وسيوصي بالاعتماد على القروض الخارجية، بدلاً من دعم القطاعات الإنتاجية ومحاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين وإعادة أموال الشعب المنهوبة. ولن تكون وصفات الصندوق سوى تكرار للسياسة التي اتبعتها الحكومات اللبنانية، ما يعدُّ عودةً لنقطة الصفر التي ولَّدت الأزمات القائمة، والتي أدّت إلى انفجار الشارع في وجه السلطة.
ليس من المعلوم إن كان رئيس الحكومة، بإقراره بالعجز، يريد أن يتنصل هو وحكومته، والنظام اللبناني من خلفهما، من مسؤولياتهم تجاه الواقع بالغ التردّي الذي وصلت إليه البلاد، ومن أي مسؤوليةٍ تجاه اللبنانيين. أو ما إذا كان يتعمد تجاهل مطالب المتظاهرين المستمرّين في ساحات التظاهر والاعتصام، منذ 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والمطالبين برحيل نظامٍ لا حاجة لهم به بعد لأن يتهموه بالفشل، كونه أقر بهذا الفشل. أما وبعد أن فعلوا ذلك، وتنصلوا من مسؤولياتهم، فما هي قيمة وجودهم في الحكم الذي يتمسّكون به، في حين يتهمون من يطالبونهم بالرحيل بأنهم ينفذون أجنداتٍ خارجيةٍ تريد بالبلاد سوءاً؟
تترك تصريحات دياب، وقرار النظام اللبناني تعليق سداد الديون المستحقة، المواطنينَ للخوف والقلق الذي يفترس حياتهم. كما أنها تثبت لهم الثابت الذي خرجوا في انتفاضتهم، قبل أشهرٍ، بسببه، أن هذه السلطة لا يمكن لها أن تقدِّم شيئاً تفتقده بحكم فشلها، فتزداد لدى اللبنانيين، والحال هذه، القناعة بأن لا شفاء للجروح التي أصابت حياتهم سوى بالقضاء على علّة الطائفية السياسية، وتغيير الدستور بما يتماشى مع مصالح المواطنين، لا مصالح الزعماء، أي تحقيق التغيير الذي خرجوا من أجله.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.