Skip to main content
رسالة رجاء الجدّاوي
سما حسن

لم يكن سقف توقُّعاتنا مرتفعًا بالنسبة لاحتمال نجاة الممثلة رجاء الجدّاوي التي بلغت الثانية والثمانين عاما، خصوصا أن الدراسات أكّدت أن كبار السن هم الفئة الأقل تعافيَا من فيروس كورونا. وربما يستغرب معجبون بالجداوي ومحبُّون لها أن تصنَّف ضمن كبار السن، فلا أحد قد شعر، من وراء الشاشة، أنها في هذا العمر، ولكني كنت أعرف أنها من مواليد ثلاثينيّات القرن الماضي، من دون أن أنبش في تاريخ ميلادها. والسبب أنني لا زلت أذكر أول أدوارها السينمائية، وقد خرجت منه بانطباع أن هذه الممثلة المبتدئة ثقيلة الظل، ولا تمتلك جمالًا لافتًا، ويليق ثقل ظلِّها وجمالها المتواضع، أو غير اللافت، بدور ابنة المأمور في فيلم "دعاء الكروان" (قصة طه حسين، إنتاج 1959)، فيما كانت سيدة الشاشة العربية رقيقة الملامح ذات الوجه الطفولي الناعم الجذّاب، فاتن حمامة، تؤدي دور الخادمة البسيطة في الفيلم. تأكّدتُ وقتها من واحد من أهم دروس الحياة التي طالما تحدّثت عنها أمي، أن حظَّ الجميلات يكون سيِّئًا، فالجميلة دائمًا ما تعاني في حياتها، وكأن الحياة تضنُّ عليها بالسعادة، أو أن الطبيعة تقول لها: يكفيك ما تملكين من جمال؛ فلا تطمعي بمال، أو منصب، أو حياة مرفَّهة.

لم أنسَ دورها في "دعاء الكروان". ولكن مع مرور الزمن، وبعد غياب طويل عن الظهور، عدتُ لأراها في مسرحيتي "الواد سيد الشغال" و"الزعيم"، للنجم عادل إمام الذي كان يصرّ على تكوين فريق عمل من الممثلين معه، في معظم أفلامه ومسرحياته، من دون أن يُعلن عنه. وكانت رجاء الجدَّاوي عضوا في هذا الفريق الذي يتشكل بمجرّد أن يتعاقد الزعيم على عمل فنِّي جديد، للمسرح، أو السينما. وقد نُشر أن الراحلة عملت معه عشرين عامًا.

فوجئتُ، أو تيقنتُ، أيضًا من ملاحظة مهمة في هذه الحياة التي ما زلنا نتلقّى فيها دروسًا، بعضها يكون مؤلمًا، وبعضها لا يعني لنا الكثير. وهذه المرّة تأكدت أن رجاء الجدّاوي هي من ذلك الصنف من النساء اللواتي يزداد جمالُهن، أو يظهر، ويتوهّج، كلما تقدّمن في العمر. وقد تألّقتْ بالفعل ممثلة، عندما تقدّمت في العمر، وعرفها الجمهور، حين أصبحت تظهر في أعمال عادل إمام. ولا أعتقد أن أدوارها قبل ذلك كانت ذات قيمة، ولم تزد على كونها استعراضًا لرشاقتها وأناقتها، فهي عارضة أزياء في المقام الأول، وكانت تهتمّ بأناقتها، وتحافظ على وزنها، وقد ذكرت، في مقابلة معها، أنها قد حُرمت، أربعين عامًا، من طبق المحشي؛ لكي لا يزداد وزنها. ولكن قطار العمر مضى بها، وأصبحت سيِّدة مجتمع مكتنزة، بل أصبحت تروِّج إعلانات طبخ في التلفزيون. تعجبني سيدةً تجيد الإحساس بأنوثتها والاهتمام بنفسها مهما جرت السنين.

رحلت رجاء الجدّاوي، بعد أن وقعت ضحيّة لفيروس كورونا، وربما تركت رسالة صغيرة، أخرست بها َالأصوات التي كانت تنتقد الرعاية الصحية الزائدة التي أُوليت لها، بمجرَّد الكشف عن إصابتها بالفيروس، فلم تحمِها هذه من الموت، وها هي ترحل، لتترك رسالتها، أن إرادة الله نافذة، وأن كل الوسائل الطبية، والرعاية الصحية المكثَّفة لم تفلح، ولم تنجح في إنقاذها، ولم يقدَّر لها أن تعود إلى جمهورها، كما تمنَّت.

رسالة رجاء قصيرة؛ أن الفيروس الذي يواجهه العالم لا يزال غامضًا، ففي مرّات ينجو مسنّ، وفي مرات يموت شاب، وفي مرة تنجو طفلة، وفي مرة يموت رضيع. ولذلك معركة العالم معه مفتوحة، والمواجهة معه مستمرة، فلا نمط لسلوكه، ولا دراسة، قد تمّ الكشف عنها تحدِّد خطّة المواجهة معه. الحقيقة المرعبة أنه يصل إلى كلّ مكان، حتى إلى من يختارون أدوارهم بعناية، في عالم الفن، فقد اختارهم بعناية، داخل استوديوهات التصوير.