رسالة إلى المواطن الهستيري 

رسالة إلى المواطن الهستيري 

06 يوليو 2020
+ الخط -

طيب، ها أنا قد أخبرتك أنني أدين بأقوى العبارات كل الذين يحزقون في الهجوم على مغامرات السيسي في ليبيا، ثم يؤيدون غزو أردوغان لليبيا، كما أيدوا من قبل جرائمه وحماقاته في سورية، ولعنت سنسفيل كل من يظنون أن المعارضة تعني ترويج الخرافات والأكاذيب والتشفي بشكل هستيري، ومن يعتقدون أن موقفهم السياسي سينتصر لو شمتوا بتعطيش إثيوبيا للمصريين أو تدهور أحوال حدود مصر الغربية، مع أن أي تدهور للأحوال في مصر سيدفع ثمنه الجميع، مؤيدين ومعارضين. 

إذاً، ما دمنا قد اتفقنا على رفض مواقف منحطة مثل هذه، هل يمكن أن أسألك لماذا تخصص كل مجهودك وكامل طاقتك للهجوم على أصحاب هذه الآراء الخزعبلية الذين أزعم أنهم ليسوا الغالبية العظمى من مستخدمي الإنترنت، ولا يمتلكون في أيديهم مفاتيح صنع القرار، وتتجاهل توجيه أي انتقاد من أي نوع لأصحاب القرار الذين سبّبوا إدخال مصر في أزمات عصيبة كالتي تعيشها الآن في ملف سد النهضة الإثيوبي، أو ملف ليبيا وما يجري فيها من حرب أهلية، أو ملف سيناء وما يجري فيها من إرهاب وانفلات أمني. 

طبعاً أنا أعرف يا أخي المواطن الشريف الهستيري في تأييده للنظام، أنك لا تستطيع أن تنتقد الصول المشرف على البوفيه في قسم البوليس المجاور لك، لكي لا تروح في ستين داهية بتهمة تكدير الأمن العام وزعزعة استقرار الدولة والتآمر على مصر، وهو وضع حزين دعني أذكرك بأنك أنت الذي اخترته ودعمته وفوضت السيسي من أجله وقمت بتخوين كل من اعترض عليه، ولذلك سيستحيل أن تقوم بتوجيه أي انتقاد ولو كان بلهجة مخففة على الرئيس الشاكم بأمر الله الذي قمت بتفويضه، حتى لو كنت متأكداً أنه ظل طوال ست سنين يهرتل في ملفات خطيرة مثل سد النهضة وليبيا وسيناء، ليطلع بالبلاد من نُقرة فيقع فيها في دُحديرة، لكن ألم تفكر وسط حموة الهجوم على أعداء الوطن الذين لا يفارق ذكرهم لسانك، أن توجه أسئلة مهذبة عمّا يجري بالضبط في ملفات سد النهضة وليبيا وسيناء؟ لعلك تفهم لماذا قيل لك كمواطن إن هذه الملفات تمّ حلّها والسيطرة عليها، ثم اتضح بدل المرة كذا مرة أن "السيسي ما حلّهاش"، على عكس ما قالت المانشيتات الحكومية الزاعقة. 

للأسف، أنا أعرف وأنت تعرف، أنك لن تسأل، لأن الكل أصبح يعرف أن السائل يعامل الآن معاملة المعترض، وكلنا نعرف مصير المعترض والسائل، لكن لماذا لا تقوم من باب التغيير بالتوقف عن تخوين من لا يزال يعترض أو لا يزال يسأل، خصوصاً لو أصبحت متأكداً أنه لا يفعل ذلك من أجل نيل رضى السلطان أردوغان، أو من أجل تصفية حسابات سياسية مع الحاكمين للبلد؟ لماذا لا تقوم من باب التغيير بالتوقف عن الانسحاق المجاني أمام السلطة، التي تبتزك كل مرة باسم الأمن القومي وبدعوى مصلحة الدولة العليا وبشعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، ثم يثبت في كل مرة أنها تفعل ذلك لتغطي على فشلها وتخبطها وخوائها وأحياناً فسادها؟ لماذا لا تقوم من باب التغيير بنبذ التفويض على بياض، بعد أن أدركت ما الذي صنعه في البلد؟ لماذا لا تتوقف عن نسيان أنك مواطن له حق أن يفهم قبل أن يؤيد، خصوصاً أنك أنت الذي ستعطش وسيموت أولاده على الجبهة وسيدفع الثمن، بعكس المسنودين على نفوذهم وعلاقاتهم وعمولاتهم ومصالحهم، والذين يعبرون دائماً من كل الأزمات بأقل الخسائر؟ 

أعرف أن كل ما يحدث حولنا يضغط على أعصابك ومزاجك وعقلك، وأن السوق الرائجة الآن هي سوق الهستيريا والهستيريا المضادة

 

طيب يا سيدي، إذا لم تكن قادراً على التساؤل أو التحفظ، فلماذا لا تفكر قبل أن تؤيد؟ لماذا لا تبحث عن مصادر معلومات تفهم منها ما يحدث بالفعل؟ لماذا لا تعقلن ردّ فعلك لكي يكون تأييدك على بيّنة مما سيحدث من تبعات وتداعيات؟ وإذا لم يكن ذلك متاحاً لك، فلماذا لا تكفّ أذاك عمّن يحاول أن يسأل ويفهم ويرفض وطنية الأمر المباشر وطريقة (شي حا) في التعامل مع قضايا في غاية الخطورة؟ 

أعرف أنك تتحرق شوقاً إلى إنهاء قراءة هذه السطور، لتوجه إليّ اتهامات حاسمة قاطعة بالخيانة وانعدام الوطنية، فأنت لا تزال مثل كثيرين من أبناء وطننا أسيراً لفكرة الوطنية التي تعتبر أن الوطن شيء بعيد وخفاق في السماء، ولا بد أن نموت كلنا من أجله، مع أن الوطن هو نحن وأولادنا وأهالينا وأحلامنا وذكرياتنا ومخاوفنا ومشاكلنا وعيوبنا، والذين يأمروننا بأن نخرس لكي نموت من أجله، هم في الغالب الذين يعيشون هم وأولادهم وأهاليهم من خيره، ويستخدمون اسمه ليغطوا على عيوبهم وجرائمهم، ولعلك لو هدأت قليلاً وفكرت وتذكرت ستجد أن من كانوا يرفضون دخول مصر في مغامرات عسكرية وسياسية في الخمسينيات والستينيات، لأن ذلك سيضعفها وسيطمع فيها الأعداء، ودخلوا بسبب ذلك السجون وتمّ تخوينهم ولعنهم ونبذهم، كانوا في الحقيقة أكثر "وطنية" من الذين كانوا يطبلون مع كل قرار حكومي وعكسه، يعني بذمتك، ألم يكن أحمد فؤاد نجم حين كتب: "الحمد لله خبّطنا تحت بطاطنا.. يا محلا رجعة ضباطنا من خط النار.. يا أهل مصر المحمية بالحرامية" إلى آخر تلك الكلمات القاسية، أكثر وطنية وخوفاً على بلده من الذين شجعوا العنتريات ضد إسرائيل، ثم برروا الهزيمة أمام إسرائيل، ثم برر كثيرون منهم الانبطاح لإسرائيل، وطبعاً الأمثلة في هذا المجال أكثر من أن يتم حصرها.

 

أخي المواطن "الشريف"، صدقني أو لا تصدقني، لن يفرق ذلك كثيراً للأسف، كنت أتمنى أن يكون السيسي ونظامه على دراية بما يجب أن يتم فعله في كل الملفات الخطيرة التي تواجهها مصر، لكنني أشك في ذلك، ليس لأنني حاقد و"غلّاوي" وكاره للوطن، ولكن لأن ما نعيشه منذ سنوات يكذب كل الأمنيات الطيبة، ويثبت أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وأنه لا يمكن أن ترتجي الصواب والخير من حاكم ليس لديه من يسائله وينتقده، ومع ذلك سأغلّب معك حسن الظن، وأتمنى أن نرى تغييراً حقيقياً في ملف سد النهضة، وملف ليبيا، بحكم خطورتهما البالغة والعاجلة، وأتمنى الاستعانة فيهما بكوادر ذات خبرات تستطيع أن تقول لمن يتولى موقع القيادة إن هذا القرار خطأ أو غلط، وتواجهه إن رفض الاستجابة لنصيحتها أو مشورتها، لكي لا يتكرر ما حدث حين قيل للسيسي من كثيرين إن الثقة المفرطة في الجانب الإثيوبي خطأ، وإن توقيع إعلان المبادئ دون ضمانات سيؤدي إلى كوارث، فلم يأبه لهذه الآراء وركن أصحابها على الرف، ولم يجرؤ أحدهم على الاعتراض علناً لكي لا يتم رميه في السجن وتخوينه. 

أعرف أن كل ما يحدث حولنا يضغط على أعصابك ومزاجك وعقلك، وأن السوق الرائجة الآن هي سوق الهستيريا والهستيريا المضادة، وأن التخوين والشماتة والتشفي أسهل وألذّ، وأنك ستقول لكل من يحدثك بالعقل والمنطق: "يا أخي نقّطنا بسُكاتك"، لكن ألا يمكن أن يكون من الأحسن والأسلم، أنك كلما قررت أن تقول أو تكتب كلاماً به تخوين وعصبية وهستيريا تشجع على الحرب، أن تتذكر أنه ربما كان من الأحسن أن "تنقّط" الوطن بتفكيرك وأسئلتك وتذكرك أن التفويض على بياض يؤدي حتماً إلى الحفر الدموي على الناشف. 
ختاماً، هل يفترض لكي أحصل على الدرجة الكاملة في امتحان الوطنية أن أختم هذا الكلام بعبارات من نوعية "حفظ الله مصر وجيشها وقائدها ووفقهم لما فيه خير البلاد والعباد"، طيب يا سيدي، اعتبر أنني ختمت كلامي بهذه العبارات، وآسف يعني إذا كنت قد ضايقتك وعطلتك عن مهامك العسكرية وعن متابعتك لسير العمليات، وأتمنى أن ثقتك العمياء في القيادة التي لم تأتِ بأي نتيجة في العصور الماضية، تأتي بنتيجة هذه المرة، صدقني لن أكره ذلك والله. 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.