رحيل مصطفى كمال فرحات.. على أن نستأنف ما غرسته شهرزاد

رحيل مصطفى كمال فرحات.. على أن نستأنف ما غرسته شهرزاد

08 يوليو 2020
مصطفى كمال فرحات (العربي الجديد)
+ الخط -

صبيحة كل يوم أحد، هناك موعد مضروب بين مفكّرَين تونسيّين في أحد مقاهي مدينة سوسة: سليم دولة ومصطفى كمال فرحات (1948 – 2020). حين التقيتُ الأول ذات موعد في ربيع 2019، قال: "لا يفوتنّك أن تحاور الفيلسوف الشهرزادي"، وهي الصفة التي يحبّ أن ينادي بها صديقه مصطفى كمال فرحات، وأخبرني بموعد الأحد. وبفضل هذا الميعاد - الذي لا يحتاج إلى تذكير بينهما - أُتيحت لي فرصة لقاء "الفيلسوف الشهرزادي" في آب/ أغسطس 2019.

أتيته وأنا لا أعلم عنه الكثير، وهو الذي أحاط نفسه بعزلة لعلها من ضرورات التفكّر والتبحّر. لم يكن لديّ عنه من المعرفة سوى بورتريه فريد ركّبه صاحب كتاب "الجراحات والمدارات" في ذهني، وقبله قرأت حواراً مطوّلاً نشره في مدوّنته "دولة سليم دولة" كان قد كسر بها عزلة مصطفى كمال فرحات ورسم اسمه في ذاكرتي لأوّل مرة (2015)، ربما ككثيرين من البيئة الثقافية، في ما يشبه الكشف عن جبل أو بحر قريب منا والقليل منا مَن كان يراه.

ثم، ظهر في 2016 كتاباه "قول الممكن فلسفياً" و"لماذا الفلسفة اليوم؟" اللذان صدرا عن منشورات الجمل، وكان أكثر ما لفتني فيهما - قبل المضامين والأفكار - لغة عربية أكثرها مستحدث من جُهد المؤلف كأنه كان يستخرجها من الصخر - كما يفعل النحات - في سبيل أن يقدّم قولاً في الفلسفة، وربما دون هذا الجهد لا مجال لبناء ندية مستأنفة للغة العربية مع قضايا الفكر الفلسفي الكبرى. لا يتورّع فرحات في اختراع مفرداته وجمله، يعجِن الجذور العربية القديمة باقتراضات من الألمانية والفرنسية، وأبعد منهما من اليونانية القديمة، لغة الفلسفة الأولى. كانت هناك طبقة كثيفة من الغموض والتعقيد منعتني من لقائه من خلال النص، ولم أتمكّن من اختراق تلك الطبقات إلا حين التقيته فأمدّني بمفاتيح ليس لقراءة مؤلفاته فحسب، وإنما لقراءة ما هو أبعد؛ في النفس وفي الكون.

يمكن أن نوجز فكره في عبارته: التفلسف شهرزادياً في وجود شهرياري

في ذلك اللقاء، أظهر "الفيلسوف الشهرزادي" كتباً مطبوعة له (في 2016) لم أرها من قبل. كانت طبعات محدودة وكأن الهدف منها تجسيد نص في شكل كتاب بغضّ النظر عن متاهات التداول والقراءة والتوزيع. تلمع أسئلة كثيرة في ذهني كأثر احتكاك المعادن ببعضها: ما الذي يحول دون أن يصل إلى الناس مشروع فكريّ اكتمل في ذهن صاحبه؟ لماذا لم تجد هذه الأعمال طريقها إلى النشر كما نعرفه فيهتمّ بها محرّر ومدقّق لغوي ومصمّم وموزّعون وأصحاب مكتبات وقرّاء؟ ألم يكن جامعياً بحيث أن أبواب الشهرة متاحة في أفق أوسع من تونس؟ من قال إنه كان يودّ أن يُقرأ؟

يرتسم البلد في ذهني كجزر معزولة. عزلة المدن عن بعضها وهي تتجاور على الخريطة. عزلة الناس وهم في نقطة واحدة من الأرض. عزلة المفكّر عن القرّاء والناشرين والإعلاميين، وحتى عن معظم أهل الثقافة. عزلة الكتاب. عزلة الكتابة. عزلة الفكر...

كيف لا تبتلعنا المفارقة: المفكر الذي يحدّثنا عن الممكن واللامحدود والتدفّق والجود هو نفسه الذي تحجبه عنا حواجز صغيرة، فلا تصل فكرته لنا إلا عبر صُدفة يسمح بها الدهر. كان يفترض أن يكون مصطفى كمال فرحات رافداً لا يغذّي البحث الفلسفي وحده بل الشعر والسرد والفنون البصرية، لكن يبدو أن الجزر المعزولة تبتلع من يسكنها. قلّة من كانوا يعبرون الحقول المعرفية ويفيضون على التخصّص غير مكترثين بالحدود، وهي وهميةٌ.

يضرب صاحب كتاب "فكر الوجود وتاريخه" لنا مثلاً كي نتجرّأ على هذه الحدود، كأن يستدعي شهرزاد إلى الفلسفة ويحوّلها إلى مفهوم فكري ناضج. يمكن أن نوجز مشروعه في عبارة حملها أحد عناوين مؤلفاته؛ "التفلسف شهرزادياً في وجود شهرياري". وما غرسُ شهرزاد كفكرة داخل الفلسفة إلا اعتراف بكل ما أقصته المركزيتان الغربية-الذكورية أو شهريار من خيال وأنوثة وتعدّد.

لن يغيب عن ذهن "الفيلسوف الشهرزادي" أن الغرس لا يثمر ما لم تحتضنه تربة ملائمة ومن يستكمل عمل الغارس بالسقاية والحرث والصبر على الثمرة. هكذا نعرف على الأقل أن بذور مشروع فكريّ تحرّري ثاو في تربتنا ينتظر "الاستئناف"، وهي مفردة عزيزة على صاحب "الوجود كـ جود" (عمل لم يُطبع بعد كاملاً).

قال مصطفى كمال فرحات ما لديه. هل سمعتُ كل ما قاله؟ هل ساعدته أسئلتي على القول أم حاصرته في ما أودّ نقله عنه لا ما يريد أن يتيحه؟ ها هو يحمل هواجسه كما يتأبط جريدته الصباحية، ويهمّ بالمغادرة. يهديني كتبه التي لا أعرفها. يكتب كلمة في زاوية الصفحة الأولى، ثم يستخرج ختماً من جيبه يضرب به على الورقة (مصطفى كمال فرحات: أستاذ جامعي، فلسفة الجود والممكن).

مرّت سنة ولم أقرأ كتبه بعدُ. كنت أعد نفسي بذلك. تحتاج إلى تفرّغ لم أحظ به. كما سَوّفتُ تفريغ الحوار معه إلى حين قراءتها، ثم أتى الموت قبل يومين فعاجلتنا جميعاً. ترنّ حكمة بعيدة في أذني: "أسرِع فإن الموت أسرَع". مثلُ هذه الهدايا والذكريات تتحوّل إلى مادة مؤلمة منذ أن نسمع خبر رحيل صاحبها. نفس الأشياء التي تفرحنا تتحوّل إلى مادة للألم وتذكاراً للضياع في الوجود. مادة للحيرة واستحضار أسئلة لا ترحم. وحده استئناف الفكرة يمكن أن يُعزينا لاحقاً، لكن كيف نتغلّب على الهدر والنسيان اللذين ابتلي بهما الفكر في بلادنا؟

 

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون