رحلة في الإنتاج الغنائي: قصة ألبوم لم يصدر

رحلة في الإنتاج الغنائي: قصة ألبوم لم يصدر

13 ديسمبر 2018
الظروف التي صنعت نجوماً في مصر لم تعد ممكنة(Getty)
+ الخط -

يعتبر العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين عقد التحولات في المنطقة والعالم، ولا يقتصر على الوضع السياسي والاقتصادي، إنما تختمر فيه ملامح عصر جديد للغناء. فالظروف التي صنعت مغنين، منذ عمرو دياب إلى شيرين عبد الوهاب ومحمد حماقي في مصر، لم تعد ممكنة الآن، مع أفول الألبوم، وتضرر شركات الإنتاج نتيجة القرصنة على الأغاني في الإنترنت.

كل هذا، ألقى بظلاله على الوسط العامل في صناعة الغناء. لكن تجربة شاب كان يتطلع لإنتاج أول ألبوماته في مصر، تكشف الوجه القاسي لخفايا سوق الغناء الذي تحركه المادة، من دون أي اهتمام بالفن.

وفي الطريق التي سلكها معمر الأحمد (اسم مستعار)، وهو شاب يمني سافر إلى القاهرة قبل أربع سنوات، بحثاً عن فرصة للغناء، فوجئ بمناخ يبدو فيه الفن تفصيلاً صغيراً وسط روابط يوثقها البيزنس. هناك حواجز كثيرة معاييرها الدفع، حتى بالنسبة لأولئك الذين يتمتعون بأصوات ذات قيمة. فهل أصبحت صناعة الأغاني مُتاحة للأغنياء فقط؟ أو على الأقل أولئك الذين في مقدورهم الحصول على دعم مادي من نخب سياسية، أو رأسمالية؟

يتطلب إنتاج ألبوم لفنان شاب دعماً مادياً كبيراً، فتكلفة أغنية قد تصل إلى سبعة آلاف دولار، إذا أراد التعامل مع أسماء كبيرة، بحسب وزن نجوم الغناء الذين تعامل معهم والشعراء والملحنين. إلا أن تكاليف إنتاج الأغنية ارتفعت مقارنة بالسابق.

وفي نفس الوقت، يشهد سوق الغناء تدهوراً بسبب انعدام وسائل الحماية للمصنفات الفنية في الإنترنت من قبل السلطات المصرية والعربية، كما هو في الغرب. ما يمكن قوله، إن صناعة النجم لم تعد كما في السابق، أو على الأقل، سيقل تحكم شركات الإنتاج الغنائية على تحديد توجهات أغاني البوب الأكثر شعبية.

والملفت، هو تلك الطقوس النزواتية التي تفرض ملامح صناعة الأغنية. فالمغني الذي يلتقي بشاعر يأخذه إلى صديقه الملحن الذي اعتاد التعامل معه أو العكس، وهو ما يحدث بصورة شبه دائمة.

يمتلك نجوم الغناء الكبار في العالم العربي القدرة على تحديد الأسماء التي سيتم التعامل معها. إلا أن تلك الشروط أصبحت متوفرة لمغنٍّ ناشئ يريد التعامل مع بعض الأسماء الكبيرة؛ وللأمر علاقة بركود تعيشه صناعة الأغنية.

استطاع معمر الأحمد التعرف إلى كثير من العاملين في هذا الوسط، وفي طريقه للبحث عن أول أغنية يسجلها في مصر؛ كان يمكنه الذهاب إلى أي ملحن أو شاعر غنائي، لكن لكل منهم أجره المحدد، الذي قد يتجاوز ألفي دولار بالنسبة لملحني الصف الأول، وهكذا بالنسبة للموزعين الموسيقيين، أو الشعراء الغنائيين. وتقل بالنسبة لأولئك الأقل شعبية ونجاحاً.

وبما أن شركات الإنتاج لم تعد مستعدة لإنتاج أغانٍ أو ألبوم، يحتاج هذا الشاب إلى أن ينتج لنفسه، وفي نفس الوقت هو بحاجة إلى أن يتعامل مع شركة توزيع. لكن عليه أولاً أن يدفع لشركات التوزيع. في السابق، كانت شركات التوزيع تتفق على نسبة من مداخيل المبيعات، لكنها أصبحت تطلب مبلغاً يدفعه هذا الفنان. ويقول الأحمد إن الاهتمام بالتعامل مع الأسماء الكبيرة من ملحنين وشعراء وموزعين موسيقيين، يشكل فرقاً بالنسبة لتلك الشركات، مقارنة بالأسماء المغمورة.

في السابق، لم يكن من السهل الذهاب إلى ملحنين كبار، مثل عبد الوهاب والسنباطي، وبحوزة المغني قيمة اللحن؛ إذ إن هناك معايير يحددها الملحن في الصوت الذي سيتعامل معه. مع التطور السلعي للغناء، اختلف الأمر منذ السبعينيات ليبلغ هذا المآل.

غير أن الذهاب إلى الملحن للتعرف إليه عن قرب، أو مناقشة قضية فنية، لن يكون مقبولاً، بل إنما لإنجاز صفقة. وهذا يتطلب الذهاب بمبلغ هو قيمة اللحن أو كلمات الأغنية. وفي جانب من ذلك، يبدو الأمر طبيعياً، لكنه في سياقه التعاقدي المحض يدين للسوق بكل فن يقدمه.

هل للأمر علاقة بركود السوق؟ ربما ذلك يبرر. كانت شركات الإنتاج هي التي تدفع المقابل للشاعر والملحن، لكنها أصبحت أكثر إحجاماً منذ سنوات. فكثير من النجوم الكبار يفضلون الإنتاج لأنفسهم، كما هو عمرو دياب، ومؤخراً تامر حسني.

في سنوات سابقة، كانت مصر تنتج مئات الألبومات الغنائية سنوياً، وتضاءل الحجم إلى العشرات. أصبح دخل شركات الإنتاج معتمداً على كودات الأغاني لشركات الاتصال، ومن بعض المبيعات على النت، وكذلك هناك مداخيل من اليوتيوب، إضافة إلى نسبة من أجور الفنانين المتعاقدة معهم، لإحياء الحفلات. وهي لا تُقارن مع مبيعات الألبوم التي كانت تحقق أرباحا كبيرة.

يقول الأحمد إن الملحن الذي تعامل معه لم يكن مهتماً إذا كانت الأغنية التي قدمها له تناسب صوته أم لا. وبالنسبة للملحنين الشباب، قليل منهم يدقق في صوت المغني الذي يتعاملون معه، ليمنحوه اللحن الملائم لصوته وشخصيته.

والنوعية الشائعة من الملحنين يستمعون إلى الصوت الذي سيقدمون له لحناً، كإجراء روتيني، أو للتعرف إلى قدرات معينة. وفي الأخير، يطلب منه التدرب على الأغنية. يتم الاتفاق، ويدفع المغني ثمن اللحن. وبالطبع يحضر الملحن إلى الاستوديو أثناء التسجيل ويشرف على كل شيء.

غير أن اللحن لم يكن مناسباً أبداً لصوت المغني، وليس على مقاسه. البعض يعمل بمقدار ما تدفع له أيضاً. وما إن يقبض الثمن تنتهي الحكاية. وغالباً ما يكون التعامل أشبه بمتجر يضع لافتة تقول إن الأشياء المباعة غير قابلة للاسترداد. فأي شاب يبحث عن أغنية، عليه أن ينتقي بعناية ما يناسب صوته وشخصيته الغنائية. وقليلون في هذا الوسط يتعاملون بصورة مختلفة.

انتظر الأحمد ستة أشهر لينجز له موزع موسيقي صعد خلال السنوات الأخيرة، وحين لم يقتنع بالعمل، انتظر ثلاثة أشهر أخرى. لا تختلف صناعة الأغنية في الوطن العربي، عن أي مجال آخر تقني، فهي تنتسب إلى الفن بصورة عرضية، ويمكن في حالات استثنائية أن ينتج عنها فن جيد بعض الشيء.

لا تقتصر معاناة الفنانين الشباب على العرب فقط، المصريون يعانون كذلك، وإن كانوا يحظون بمجال مساعدة أفضل في عاصمة الفن العربي القاهرة. ومع تخلي شركات الإنتاج عن دورها، تواجه صناعة الأغنية في مرحلتنا أزمة حقيقية، تشبه ما يشهده العالم العربي من تقلبات سياسية واضطرابات عاصفة. ذلك أن العصور تتغير، بتغير مفاهيم الإنتاج، لكنها تفرض سماتها على معايير الغناء والنجومية.

المساهمون