رجل عارٍ يطارد خنزيراً

رجل عارٍ يطارد خنزيراً

18 اغسطس 2020
العدسات التي التقطت الصور حولت الرجل إلى منتج استعراضيّ (Getty)
+ الخط -

يتردد لدى دارسي الصحافة الاقتباس الآتي: "حين يعضّ رجلاً كلبٌ، هذا ليس خبراً، لأنه يحدث مراراً، لكن حين يعضّ رجلٌ كلباً، هذا هو الخبر". أصبح هذا الاقتباس يثير السخرية عند قراءته، خصوصاً أنه يعود للقرن التاسع عشر؛ أي الزمن الذي لم يمتلك فيه "الجميع" كاميرات، ولم تكن وسائل التواصل الاجتماعي تحكم كيفية رؤيتنا للعالم. 
نستعيد هذا الاقتباس إثر حادثة حصلت أخيراً: رجل ألماني عارٍ، في حديقة عامة، يطارد خنزيراً برياً سرق حقيبته، التي تحوي ثيابه وحاسوبه المتنقل. الصورة المرافقة للحكاية مضحكة: رجل يهرول بين المارة والمسترخين وراء حيوان بريّ يحاول أن يسرق أغراضه الشخصيّة. 
المثير للاهتمام أن أغلب من نقلوا الخبر، نقلوه بوصفه مفارقة لاشخصية؛ مجرد رجل لم يذكر اسمه، في حديقة برلينيّة يطارد خنزيراً. الحدث ذاته هو المثير للاهتمام، لا التفاصيل المحيطة به، الحكاية الإنسانية التي انتهت بمفارقة كهذه، لا نعرف تفاصيلها. الخبر كان أشبه بمن يكتب منشور فيسبوك، وربما هكذا بدأ الأمر، أحدهم التقط الصورة بالصدفة وكتب عنها ما كتب. 
نشير إلى هذا الموضوع في محاولة لقراءة أسلوب الكتابة الصحافيّة وطبيعة صناعة الأخبار، تلك التي تقلصت في بعض الأحيان إلى حد تغريدات قصيرة، أو ثوانٍ معدودة على سناب تشات. هذا الاختزال، لا التكثيف، ترك الكتابة الصحافيّة أمام تحدٍّ جعلها تميل إلى إنتاج ما هو صالح للتبادل والاستهلاك، ليس ما هو أرشيفي أو يخاطب الظاهرة الإنسانية نفسها، بل إن الفضول نفسه تلاشى في بعض الأحيان. كيف كان نهار هذا الشخص الذي تحول بجسده العاري وخوفه على مقتنياته الشخصية إلى حديث "العالم"؟
لا نحاول هنا أن نطرح سؤالاً عن الخصوصيّة، كون الرجل العاري وافق على نشر الصور، بل نسأل عن الفضول الصحافي، ورغبة في معرفة الحكاية وسلسلة الأحداث التي أدت إلى ما نراه مختزلاً في صورة. 

صرحت الجهات الرسميّة بأن هذه ليست الحادثة الأولى من نوعها، بل هناك أيضاً ثعالب تمارس نفس السلوك، لكنها طمأنت مرتادي الحدائق والمساحات العامة بأن الحيوانات معتادة على البشر، ولا داعي للخوف منها. لكن، إن كان الحدث اعتيادياً ومتكرراً، لم تم تداوله في الأخبار؟ وهنا نشير إلى واحدة من أهم خصائص "الأخبار" المعاصرة، ألا وهي الترفيه، والتي لا تنفي الجدّية، بل تتلاعب بقواعدها وأسلوب استعراض المعلومات. 
الصيغة الترفيهية التي قُدّم فيها الخبر، تعتمد على تعميق المفارقة بين الاعتيادي واللااعتيادي: رجل ينتمي إلى فئة تمارس العريّ، تُسرق حقيبته، لتأتي بعدها التفاصيل. هناك حاسوب نقال في الحقيبة، وكل مقتنيات الرجل. المفارقة هي أنه لا يمكن له التحرر للأقصى من "مقتنياته"، عريه يفقد قيمته حين قام كائن عار أصلاً بسرقة كل ما يملك، وتركه عرضة لأعين المتنزهين والمسترخين.
جوهر المفارقة خلقته وسائل التواصل الاجتماعي نفسها، ممارسة العريّ للتحرر، حوّل الرجل الذي يركض إلى أسير لأعين متصفحي الشاشات. اختزل كل موقفه الثقافي والفردي وخياره بالعريّ إلى مفارقة مضحكة وعابرة، بل ربما تراجيديا خفيّة، جوهرها أن لا عريّ في هذا العالم، كون "الأغراض" هي ما تحكم الشخص، وأعين وعدسات من حولنا هي التي تحكم سلوكنا، تلك الأعين والعدسات التي التقطت الصور وحولت الرجل إلى منتج استعراضيّ يدخل في تاريخ المفارقات والأخطاء التي تنتشر على الإنترنت يومياً. وكأن هذا التحديق الكليّ الذي يمارسه "الجميع"، حول كل ما نختبره يتحوّل إلى احتمال خبر سريع، يظهر ويتلاشى في عوالم الإنترنت.

المساهمون