رثاء شهيدٍ عاديّ جداً

10 يوليو 2014
+ الخط -


لم يكن مشتركاً في "آرب أيدول"، ولم يكن من الشيوخ الجدد الذين يملأون الفضائيات فتاوى مستوردة. كان يحلم فقط بوطنٍ لا تهدر فيه كرامته، كان يحلم بفسحة حرية، أن يتنفس هواءً نظيفاً خالياً من عفونة الفساد والفاشية.

مرّ خبر استشهاده كأيّ خبرٍ على شاشات التلفزة، لم يلتفت إليه أحد، لعلّ بعضهم كان يأكل، ولعلّ بعض آخر غيّر القناة عند إذاعته. بالعادة، تمر مثل هذه الأخبار على أسماعنا، ولا نسأل أنفسنا مَن قَتَل ومَن قُتلَ، فهذه التفاصيل لم تعد تغرينا، ولم تعد تهمّنا.

اثنان فقط! ما يلفت انتباهنا، في أحسن الأحوال، أن يكون الضحايا فوق الخمسين. وإذا كان هناك هجوم كيماوي، نقف مشدوهين، نعلّق على "فيس بوك"، نضع صور بعض القتلى، ونضع صورة سوداء، لنعلن حدادنا.

هكذا مر خبر استشهاد أحمد الخلف مرور الكرام، لم يعبأ به أحد، لم تقف الدنيا ولم تقعد، استمرت المسلسلات، واستمرت الأغاني، ولم يعلن العالم الحداد. كل ما بقي من خبر وفاته كلمة "شخصين". في عاداتنا العربية الأصيلة، أصبحت أخبار القتلى والموتى فواصل إعلانية ما بين هذا المحلّل وذاك.

لكن أحمد لم يكن رقماً، كان روحاً باسمة من لحم ودم، من أحلام وطموحات. عندما التقيته، أول مرة، كان عبارة عن ذلك الغضب القادم من الهامش، ما هي إلا دقائق، حتى أدركنا أننا ننتمي إلى الهامش نفسه، تركتنا أوطاننا ضحايا الإهمال، أهلنا على الهامش، وقريتنا على الهامش، وجراحنا وآلامنا كلها على هامش السلطة.

تخرّج الشهيد من قسم التاريخ، وأنهى رسالة الماجستير، وفي كل مرة كان يقول إن السلطة تتدثّر بغطاء رقيق، يستر عيوبها ونواقصها، ومهمتنا أن نكشف سترها، وعندما تتعرّى فلن تبقى. السلطة، يا صديقي، قد تعرّت، وهي تفاخر بعورتها، بل إنها، اليوم، تجاهر بسوأتها وتتفاخر بخطيئتها.

مات بصمت، شيّعه أبناء قريته، بقرص، بصمت، وجوم لفّ الجميع، لم يكن بطلاً من هذا الزمان. لم تكن لديه بندقية، ولم يكن يحفل بأعداد الطلقات، ترك جامعته، وعاد إلى قريته، كان يخشى على الصغار من أزيز الرصاص، ومن أصوات القنابل، ومن الجنون الذي يلفّ الوطن، لم يحاول أن يضع مشروعاً سياسياً، ولا أن يقرر مصير أبناء وطنه بدلاً عنهم.

اختلطت عليه المشاريع، لم يعد يعرف ما يريد، لكنه كان يعرف جيداً ما لا يريد. لا يريد قهراً يمكث نصف قرن آخر، لا يريد وطناً تتقاذفه أرجل الفاسدين، لا يريد وطناً يكذب حتى في النشرة الجوية، لا يريد مسرحيات هزلية، يعمل فيها المواطنون "كومبارس".

رسم بدقة خارطة الطريق من بيته إلى المدرسة، ووضع الطرق الجانبية التي يمكن أن يسلكها، عندما يشتد القصف، علّم الصغار كيف يختبئون تحت المقاعد، وكيف يتجنّبون البراميل المتفجرة. كان يقول لهم إن الفرق بين الحياة والموت 50 ثانية منذ سماعك صوت الطائرة. كان أحمد يدرك أن هذا الجيل الذي يعلّمه هو الذي سيحمل مشعل بناء الوطن عندما ينتهي هذا الزمن. كان أحمد بطل في زمان آخر لم يأتِ بعد.

مشكلة أحمد أنه كان يشبهنا، أخذ لون بشرته من سمرة أديم الأرض، يفتنه خرير الساقية التي تمر بجانب بيته، ويحلو له أن يجلس على ضفاف الفرات. يحلم بالبيت والزوجة وتربية الأطفال، وهذا وطن لم يكن لمَن يشبهنا. هذا وطن شُنقت فيه الوطنية على الصحون اللاقطة، يختال زعماؤه بزهو المنتصر، ويتحفوننا بخطبهم العصماء، هذا وطن جعلنا أقناناً في مزارعنا، واستدعى كل موروث القهر في تاريخنا، وأخرج من مخابئ النسيان "العمم" التي تمجّد زعيمه واللحى التي تصفّق له.

وطن توضع فيه النياشين على صدور القَتَلة، وطن أهال التراب على ما بقي من آدميتنا، وأحال المطالبة بالحرية حرباً أهلية، لا تبقي ولا تذر، وأحال التوق إلى الكرامة نحيباً على شواهد القبور.

نم يا صديقي، فلا أعرف مَن يحسد مَن، القابر أم المقبور! لقد ارتحتَ من هذا الجحيم، من هذا الغثيان الذي أصبح كملاعق الدواء، نتجرعه كل يوم. اترك ظلال طيفك تحوم على السواقي وفي الحقول، وعندما ينتهي هذا الجنون سوف يلتفتون إليك.

A1CADBA5-201E-4EE1-870E-303C6562E1FF
رامي الخليفة العلي

كاتب سوري