راوول فوينتي... تنويع الأشكال السينمائية خدمةً لقضايا إنسانية

راوول فوينتي... تنويع الأشكال السينمائية خدمةً لقضايا إنسانية

21 أكتوبر 2018
"يوم آخر للحياة" للبرتغالي راوول دو لا فوينتي (فيسبوك)
+ الخط -
10 أعوام كاملة، ظلّ المخرج البرتغالي راوول دو لا فوينتي خلالها يخرج أفلامًا وثائقية، طويلة وقصيرة، من موقع اهتمامه وانحيازه السياسي إلى الأقليات ودول العالم الأكثر فقرًا في أفريقيا وأميركا اللاتينية. يرى نفسه "صحافيًا سينمائيًا"، ومثله الأعلى هو الصحافي البولندي الشهير ريتشارد كابوشنسكي، الذي عاش حياته كلّها مرتحلاً بين حروب مختلفة، ومنطلقاً من النقطة نفسها: الانحياز إلى الطرف الأضعف.

عام 2018، استطاع فوينتي أخيرًا تحقيق حلمه الأكبر: إخراج "يوم آخر للحياة" (Another Day Of Life، 2018)، بالتعاون مع داميان نيناو، عن الفترة التي أمضاها كابوشنسكي في أنغولا عام 1975، والتي أثّرت بشكل فاعل في مسار الحرب الأهلية والصراع الدولي هناك، وغيّرت تمامًا التاريخ المعاصر للدولة الأفريقية الغنية.

"يوم آخر للحياة"، المأخوذ عن كتاب بالعنوان نفسه لريتشارد كابوشنسكي، عرض في الدورة الثانية (20 ـ 28 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان الجونة السينمائي"، وفاز بجائزة الجمهور الخاصة بأفضل فيلم. تبدأ أحداثه قبل أشهر قليلة على جلاء الاحتلال البرتغالي عن أنغولا أواخر عام 1975، وقيام القوتين الكبريين في العالم حينها، الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، بدعم جبهتين متعارضتين في حرب أهلية متصاعدة، بهدف السيطرة على الماس والثروات. في هذا الصراع الدولي، يحضر كابوشنسكي، ويتّخذ موقفًا منحازًا بالكامل لـ"الجبهة الشعبية لتحرير أنغولا" (الطرف اليساري المعارض لأميركا حينها)، ويسعى ـ من موقعه كصحافي ـ إلى حشد دعم عالمي لها، بذهابه في رحلة داخل أنغولا، ومقابلة فراسكو، القائد المُنشقّ عن الجيش البرتغالي والمنضمّ إلى المعارضة الأنغولية.




أمور عديدة لافتة للانتباه في الفيلم، أبرزها الشكل الفني الذي اختاره راوول دو لا فوينتي لسرد الحكاية، إذْ مزج بين الأنواع البصرية المُتاحة كلّها: رسوم متحركة بشكل روائي لإعادة إحياء الفترة القديمة في أنغولا عام 1975؛ والوثائقيّ المتمثّل بـ3 لقاءات طويلة مع شخصيات حقيقية لاقت كابوشنسكي في رحلته، بينهم القائد فراسكو نفسه. هناك أيضًا مواد أرشيفية كثيرة (صُور وأشرطة فيديو) عن تلك المرحلة وعن بعض شخصياتها، وتحديدًا القائدة كارلوتا، ابنة الأعوام الـ20 حينها، والمناضلة في الحركة الشعبية.

نظريًا، يبدو دمج هذا الكمّ من المواد المتناقضة بصريًا وسرديًا كأنه سيُنتج شيئًا شديد الفوضى. لكن، بحساسية بالغة في مونتاج الفيلم، تمكّن دو لا فوينتي من خلق تجانس فريد بينها، مثيرًا الشعور باستحالة غياب أو حذف أي منها. فاللقاءات المُصوَّرة مع الشخصيات تعطي حميمية كبيرة لريتشارد شابونسكي ولعلاقتهم به، والمواد الأرشيفية (تحديدًا تلك المتعلّقة بكارلوتا) تُثير إحساسًا أكبر بالحضور في الحرب وفي عنف أحداثها. أما الرسوم المتحركة، الأقرب إلى الـ"كوميكس"، فتساهم في دعم رؤيته لشابونسكي كبطل خارق وداعم الأطراف الأضعف، ومحاولاً من موقعه دعم الدول والشعوب الأكثر اضطهادًا وتضرّرًا في كل ما يحدث من صراع سياسي وحربي دولي. هذا المزج المتدفّق بين المواد يُنتج طاقة عاطفية جارفة لدى المُشاهد، مع استيعاب كبير لجوهر انحيازات شابونسكي إلى الأقليات والمضطهدين والمظلومين وسط صراعات الأنظمة العالمية.

من ناحية أخرى، فإن الأكثر نضجًا في خيارات راوول دو لا فوينتي متمثّل في عدم محاولته ادّعاء الحيادية. فهو مثل شابونسكي، منحاز بشكل واضح إلى الصحافي البولندي نفسه، وإلى الدول الأفريقية والقضايا المناهضة للدول الكبرى. أفلامه السابقة تؤكد هذا، كما أنه ينطلق من "محبة وتقدير خالص نحو مسيرة وخيارات شابونسكي، ونحو الشخصيات الحقيقية التي صوّر معها أثناء (تحقيق) الفيلم"، كما قال في ندوة أعقبت عرضه في مهرجان الجونة. هذا يؤدي إلى فيلمٍ غير مرتبك في اختياراته، وله موقف سياسي وفني واضح، كأفلام عديدة في تاريخ السينما، كـ"معركة الجزائر" (1966) للإيطالي جيلّو بونتيكورفو مثلاً.

دلالات

المساهمون