رابعة والنهضة: بين الماضي والمستقبل

رابعة والنهضة: بين الماضي والمستقبل

21 اغسطس 2016
(تصوير: محمد الشامي)
+ الخط -

في الرابع عشر من آب/أغسطس 2013 استيقظت مصر والعالم على يوم دموي وصف بأنه أسوأ يوم في تاريخ مصر الحديث، حيث قامت قوات الانقلاب بفض اعتصام أنصار الشرعية في ميدان رابعة العدوية في القاهرة، ومعه اعتصام آخر في ميدان النهضة في الجيزة، مستعملة القوة المفرطة، الأمر الذي أدى إلى سقوط آلاف الضحايا من قتلى وجرحى وتحول الميدانين إلى كومتي نار.

لقد كانت مذبحة مكتملة الأركان سعى مرتكبوها للقتل بشكل ممنهج، فقد وصفتها منظمة هيومان رايتس ووتش بأنها أكبر عملية قتل جماعي في تاريخ مصر، حيث تقدمت آليات عسكرية وأحاطت بجميع مداخل الميدانين وأطبقت الخناق على كل من فيهما. تجمع الشباب وحاولوا بما تيسر لهم منع قوات الأمن، لكن الرصاص انهمر من فوقهم ومن كل الاتجاهات، وهيأت قنابل الغاز لأفراد الأمن اصطيادهم واحداً تلو آخر، وأحرقت الخيام، وجرفت الجثث. بذلك، قتل الآلاف من المعتصمين. ووفقًا لمنظمات حقوقية، فقد تجاوز عدد القتلى 1100 خلال العشر ساعات الأولى للفض فقط، وأحيل مئات من المعتصمين إلى القضاء، لكن لم يوجه أي اتهام إلى أحد من الجيش أو الشرطة.

بدأ الاعتصام في ميدان رابعة العدوية في 28 من يونيو/حزيران 2013 رداً من مؤيدي الرئيس المعزول محمد مرسي على اعتصام ميدان التحرير الذي دعت له القوى المناوئة له، والمطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة.

وبعد عزل مرسي في الثالث من يوليو/تموز من طرف الجيش، اتجهت الأنظار لاعتصامي رابعة والنهضة اللذين تزايد عدد مؤيديهما، خاصة بعض القرارات التعسفية والإجراءات القمعية التي أصدرها الجيش والسلطة الانتقالية آنذاك. وعلى الرغم من مرور ثلاث سنوات على فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، واللذين ضما عشرات الآلاف من مؤيدي الرئيس المعزول محمد مرسي، تظل أعداد ما خلفته المذبحتان من قتلى ومصابين ومفقودين مختلفاً عليها من جانب الجهات الرسمية المصرية والمنظمات الحقوقية المحلية والدولية وشهود العيان.

فمن جانبها، أعلنت وزارة الصحة بعد يوم واحد من المذبحة عن وقوع 333 قتيلاً مدنياً وسبعة ضباط خلال فض الاعتصامات و1492 مصاباً وزعوا على 23 مستشفى، بينما أكدت مصلحة الطب الشرعي على لسان متحدثها الرسمي في نوفمبر/تشرين الثاني 2013 حصر 627 قتيلاً خلال واقعة فض اعتصام رابعة وحدها.

وفي مارس/آذار 2014 أعلن وزير الدفاع آنذاك وقائد الانقلاب العسكري عبد الفتاح السيسي أن حصيلة ضحايا الفض لم تتجاوز 312 شخصاً، وبعد يوم واحد من تصريحاته أصدر المجلس القومي لحقوق الإنسان، يعين أعضاؤه من جانب الحكومة، تقريرًا ذكر أن عدد قتلى اعتصام رابعة العدوية بلغ 632 قتيلًا، منهم ثمانية عناصر من الشرطة.

من جانبه، أعلن تحالف دعم الشرعية المؤيد لمرسي أن عدد ضحايا الفض تجاوز الـ2600 قتيل، بينما وثق المرصد المصري للحقوق والحريات 1162 حالة قتل. وذكر موقع ويكي ثورة؛ وهو موقع مختص بتوثيق أعداد ضحايا أحداث الثورة المصرية، أسماء 932 قتيلا من خلال جثامين كاملة التوثيق، و133 قتيلا آخر بمبادرات حصر بلا وثائق رسمية، فضلا عن خمس جثث مفقودة وفقا لشهادات ذويهم، و29 قتيلا مجهول الهوية بحصر أولي لجهات حقوقية به احتمال تكرار، إلى جانب ثمانين جثة في مستشفيات الصحة غير معلومة البيانات فيها احتمال تكرار، و81 حالة وفاة أو أشيع وفاتها بلا بيانات كافية.

على هذا النحو، دخل الحدث التاريخ خصوصًا بعد رفع شعار "رابعة" المشار إليها بأصابع اليد الأربعة، ويرتسم شعار "رابعة" في هيئة كف مفتوحة ما عدا الإبهام، مرسومة بلون أسود، وأحيانا تقطر دمًا على أرضية صفراء، صممته المصممة التركية صالحة إيرين والمهندس التركي جهاد دوليسو.

ودأبت المظاهرات التي ينظمها مؤيدو مرسي في مصر وفي مختلف دول العالم بعد ذلك على رفع الشارة، لتصبح رمزا لـ"رفض الانقلاب والتضامن مع شرعية مرسي".

وعلى مدار ثلاث سنوات، استطاعت شارة "رابعة" أن تنضم إلى الشارات الرمزية العالمية التي ابتكرتها توجهات إنسانية مختلفة في ظروف وأوقات متباينة. وعند البحث في أصل التسمية لكلمة "رابعة" تعددت الروايات بهذا الشأن، حيث نسب بعضهم التسمية للإشارة إلى استكمال مرسي ولايته الرئاسية المقررة بأربع سنوات (أكمل سنة واحدة قبل انقلاب الجيش عليه)، بينما أرجعها بعضهم إلى اسم الميدان الذي انطلقت منه الاعتصامات بعد الانقلاب، وهو الاحتمال الأرجح.

ومع ذلك، تجلت "عالمية" الشارة في أكثر من مناسبة ومقام، بدءًا من تلويح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بها مرات عدة، كما رفع عضو المجلس الرئاسي البوسني بكر علي عزت بيغوفيتش شارة "رابعة"، ورفعها السيد علي الدين المستشار السياسي للرئيس السنغالي تضامنا مع أنصار مرسي.

تحل الذكرى الثالثة لفض اعتصام ميداني رابعة العدوية والنهضة بينما يواصل القضاء محاكمات المشاركين في الاعتصام، في توجه ترى فيه المعارضة ومنظمات حقوقية إمعانًا من الحكومة المصرية في الهروب إلى الأمام والتنصّل من المسؤولية. ولا يزال القضاء المصري محل انتقاد لإصراره على معاملة المشاركين في الاعتصام باعتبارهم جناة تسببوا في ما سقط من قتلى ومصابين وحل من دمار وخراب جراء تلك الأحداث.

ورغم تتابع بيانات منظمات حقوق الإنسان الدولية المختلفة التي تحمّل سلطات النظام المصري بعد انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013 المسؤولية الكاملة عما خلفته عملية فض الميدانين التي سقط فيها مئات القتلى وآلاف المصابين لم يكترث القضاء المصري لأي منها. ولا يزال القضاء المصري، والذي تصفه أغلب التقارير الحقوقية بأنه "مسيس"، يتابع النظر في قضايا تتهم رموزًا وأفرادًا معارضين شاركوا في هذا الاعتصام وفقد بعضهم أقرب ذويه أثناء عمليات الفض بارتكاب المجازر التي نتجت عنها، متجاهلة أي اتهام موجه لمؤسسات السلطة حينها. ويرى مراقبون وحقوقيون أن النظام المصري يسعى من خلال هذا إلى التنصل الكامل من مسؤولياته تجاه تلك الأحداث المجرّمة دوليًا وقطع الطريق أمام أي محاولة لتحميلهم تبعات تلك الأحداث، عبر كيل تلك التهم لرموز وقيادات معارضيه والإلهاء بالسعي لنفي تلك التهم وردها.

ومما يجب التوقف عنده أن حدث فض اعتصامي رابعة والنهضة دخل الذاكرة السياسية المصرية والعربية، حيث توحّدت قوى الدولة التقليدية كالجيشو الشرطة والقضاء على استعمال القوة والحشد للحدث بالتخوين وانتهاج القمع والاعتقالات، في محاولة لاستئصال معارضيهم وحظر أنشطتهم، ولم يقتصر الأمر على جماعة الإخوان المسلمين بل تم تجريف الساحة السياسية من كل القوى المدنية المشاركة في ثورة الخامس والعشرين من يناير وإنتاج ثورة مضادة لجأت للحشد والتجييش والمظاهرات، مستندة لأدوات الثورة وشماعة الحفاظ على الوطن والاستقرار، الأمر الذي تسبب في أزمة مجتمعية تجاوزت الاستقطاب السياسي لتصبح عداءات تجاه فصائل معينة من المجتمع ومؤسسات عتيدة في الدولة.

إضافة إلى ذلك، تحيلنا ذكرى فض اعتصامي رابعة والنهضة إلى الفرص السياسية الضائعة خلال تلك الفترة التي كان من الممكن أن تحدث تغييرات كبيرة على المسار الديمقراطي في مصر والعالم العربي، فعناد الإسلاميين وتشبتهم بالسلطة دون أية محاولة لخلق مناخ صحي للحوار السياسي، وإصرار القوى المعارضة على استجداء الجيش للتدخل بعزل الرئيس الذي تحول في ما بعد إلى عزل شامل للسياسية بمصر وحجر على كل القوى السياسية، خاصة المدنية التي على الرغم من معرفتها المسبقة بتوغل الجيش في الحياة العامة وتضخم مؤسسات الدولة العميقة من شرطة وقضاء وإعلام إلا أنها أصرت على اللجوء إلى الجيش دون فتح قنوات للنقاش والتفاوض مع الإسلاميين، فضلاً عن تربص مؤسسات الدولة بأي تغيير وعملها المنسق لإجهاض مخرجات الثورة فلم تصغ لضمير أمتها ولم تقدر مسؤوليتها التاريخية لرأب الصدع بين أطراف الصراع والتزهد عن العملية السياسية، محافظة بذلك على السلم المجتمعي والأمن العام.

علاوة على ما سبق، لا بد من الإشارة إلى الموقف المخيب لمجموعة كبيرة من المثقفين باعتبارهم قادة رأي ونخبة وطن، فمواقفهم افتقدت الموضوعية وفي العديد من الأحيان الإنسانية، فحقدهم الذاتي على جماعة معينة وعداؤهم الشخصي لأشخاص آخرين جعلهم يبررون القتل والوحشية بأسخف الوسائل، فقد برّروا الإجراءات الاستثنائية وعودة حالة الطوارئ، وروجوا لشائعات التخوين وتصنيف المعارضة كطابور خامس وعملاء للوطن، كما ساهموا في الكذب والتضليل بالحديث عن مؤامرات داخلية وخارجية تعزز قبضة الحاكمين ولم يساهموا بالحركة الثقافية للقيام بمصالحة وطنية فالعدالة الانتقالية موؤدة والديمقراطية مغتالة، بل لم يملك جلهم  شجاعة الاعتذار عن مواقفهم وعن التناقض الواضح بين الرصيد المعرفي والموقف الأخلاقي للمثقف.

إن صناعة المستقبل الديمقراطي تستوجب استحضار الذكريات الأليمة والوقوف عند معانيها والدروس المستفادة منها، فالأخطاء كبيرة وأطرافها متعددة لكن يبقى الأمل حاضر والسعي حثيث نحو آفاق رحبة.


(المغرب)

المساهمون