رابعة... متعاطفون لكنهم يستحقون القتل

رابعة... متعاطفون لكنهم يستحقون القتل

13 اغسطس 2015
مسألة التعاطف مع المذبحة تبدو لي ليست خياراً (Getty)
+ الخط -
ذكرى رابعة، والذكرى قد تنفع الناشطين، مسألة التعاطف مع أكبر مذبحة في التاريخ المصري الحديث تبدو لي ليست خياراً، ثمة فصيل كامل من المثقفين، يطرحون أنفسهم بوصفهم سدنة هياكل العلمانية، وكهنة معابد الاستنارة، هنا تصبح حقوق الإنسان مبادئ فوق أيديولوجية، لا ينبغي المساس بها، جزء من الوجاهة الاجتماعية للمثقف، ومحدد لمكانته بين أقرانه، القتل جريمة بشعة، خصوصاً أن غيرنا سبق وزايد في هذه المساحة، فعلينا اللحاق بالقطار، الكلام في الغالب بلا تذاكر، "الركوب مجاناً"!


يفرق الفلاسفة بين نوعين من الاقتناع، "العاطفي" و"العقلي"، يتصور القارئ العربي أن الاقتناع العقلي هو كل شيء، ربما لأن كل منا يبحث عما ينقصه، إلا أن حقيقة الأمر أن القناعات لا تتحول إلى ممارسات قبل أن تتحول من العقلي/ النظري، إلى العاطفي/ العملي، متى انحازت المشاعر تحولت الحقوق إلى مشروع.

هل كانت "رابعة" يوماً ما جزءاً من القناعات العاطفية لمثقفينا، أو ناشطينا، الثوار، أو المتثورين؟ هل كانت جزءاً من قناعات كثير ممن يبرئون ساحاتهم، ويتنصلون من مسؤولياتهم عنها؟ هل كانت جزءاً من القناعات العاطفية عند من صنعوها، واعتلوا منصاتها، وركبوا آذان جماهيرها، وتوعدوا النظام العسكري بالثبور وعظائم الأمور، وأن دونها الرقاب؟ هل هي جزء حقيقي من وجدان من يتكسبون من ورائها الآن إعلاماً، واستلهاماً، وتثويراً، وبكاء كربلائياً على من مضوا إلى جوار ربهم؟ تبدو الأسئلة قاسية، ويبدو واقعنا أشد قسوة وبؤساً، مرايانا كاذبة، وأسئلتنا غائبة، ماكينة من الخطابات تلتهمنا دون وعي، أو شعور، تبدو لصورتك كأنك أنت .. لكنها رابعة تخبرك: من تكون؟، فقط إذا تركتها تخبرك..

ثمة خطابات راجت عن "رابعة" تختصرها في منصتها، تتناسى عن عمد أن أصحاب المنصة كلهم أحياء يرزقون، فيما مات القرويون، أبناء الأقاليم، عيال الحواري بفقر الأحوال والأفكار، شباب آمنوا بأن هذا طريق الثورة فمشوا، آخرون آمنوا بما يفعلون فلم يدخروا جهداً، مات من يستحق الحياة، وعاش من يستحق النقد، كي يستطيع أن يجعل لهذه النبضات معنى يتجاوز الحضور الفيزيائي.

مذبحة، لكنهم يستحقون، مجزرة لكنهم طائفيون، جريمة لكنهم لم يمشوا، كارثة لكنهم أغبياء، كان بإمكانهم تفاديها، لماذا لم ينصرفوا حين طلب إليهم؟ كأننا كنا سننصرف لو طلبوا منا ذلك!

لماذا لم يتفاهموا، أو يدعوا لانتخابات رئاسية مبكرة، أو ينحازوا لرأي "الشعب" الملايين؟، أي ملايين؟ ملاييننا أم ملايينهم؟ كلانا كان يسنده الملايين .. لم تكن ثورة الملايين ضد أصحاب المصالح، كانت ثورة الانقسام، والتخلي عن قواعد اللعبة إلى شريعة الغاب، الأقوى يقتل ويكسب، ثم يبكي على شواهد قبور قتلاه ويهديهم تحيات السيد المستنير، المتعاطف مع هؤلاء الذين كانوا وما زالوا يستحقون المزيد من القتل، رحمة الله على أولاد الكلب الإرهابيين! 
نحن نكرههم لكننا ندافع عن حقوقهم!.. كأن طرح خطابات الكراهية في سياق استقطابي عصابي مثل هذا يمكنه أن يؤدي إلى أي شيء سوى المزيد من إراقة الدماء، وتوفير البيئة المناسبة لتقبلها، والرضا بها، و"الطرمخة".

وراء النقد يختبئ التحريض، وراء التأريخ يختبئ الاختزال والتسطيح، وراء الشعارات تختبئ النوايا، ووراء الخطابات لا تختبئ النفسيات، وإن حاولت.

رابعة عنوان مراراتنا المعتقة، كراهياتنا المنفلتة، غرورنا، وسذاجة تصوراتنا عن أنفسنا، لسنا من تعاطف، بل من حرض، لسنا من ثبت، بل من انتحر، لسنا أبناء الثورة، بل نحن أبناء الأزمة، والريبة، والكلام الإنشائي الذي يتراكم على حواف الظاهرة، ويحيط بها، حاجباً عنها ضوء الشمس، وأعين المتطلعين للمعرفة، في آن، الكلام الذي ليس من وراءه كلام، نيران تحرق ولا تضيء، "ضاقت الرؤية فاتسعت العبارة".

انصرف الناس عنا، غنوا ورقصوا أمام فوهات الكذب، كانوا معنا، كفروا بنا؟ لماذا؟ غابت البطولة، وعششت عناكب الثرثرة، لم يعد ما يستحق السرد، فلماذا لا ينفض السامر؟، "لا يعرف السرد إلا من يكابده" .. رابعة؟

(مصر)

المساهمون