رابعة.. بين الشعور بالذنب والعجز

رابعة.. بين الشعور بالذنب والعجز

13 اغسطس 2015
عامان على المذبحة ولا أملك ترياقاً للشعور بالذنب والعجز(Getty)
+ الخط -
على الرغم من كتابة مئات المقالات في رثاء ضحايا المذبحة العسكرية في ميدان رابعة، وعلى الرغم من إبداع الخطباء والساسة والكتاب في صوغ مصطلحات سياسية وأدبية لوصف الأثر الذي خلفته المذبحة في نفوسنا، إلا أن جملة واحدة تظل عنواناً للذكرى في عقلي وقلبي، جملة واحدة لم أتذكر من استدعاها لوصف حالتنا جميعاً بعد أن استوعبت عقولنا حقيقة ما جرى، جملة سوف نعنون بها ذاك الفصل من كتاب حياتنا وربما حياتنا كلها "لم نعد كما كنا".


شعور مختلط بين الذنب والعجز يعتصر قلوبنا عند تذكر اليوم الدامي، يتنامى ويستولي على عقولنا وجوارحنا مع حلول ذكرى الواقعة، فيفرض علينا العديد من المراجعات والمصارحات التي تخلق مزيداً من الشعور بالذنب والعجز، وتخلف وهناً لا نقدر على نزعه من نفوسنا، لنستمر في الهروب من اليوم وذكراه ونغرق بين التنظير السياسي لتبرير مواقف سابقة، وبين كلمات جوفاء نقولها وشعارات نرفعها لمحاولة نفض الهم عنا، وغسل أيدينا من الدماء.

على الرغم من أن المذبحة لم تكن الأولى ولن تصبح الأخيرة في صراع الشعب المصري مع السلطة العسكرية، إلا أنها تحمل رائحة خاصة بها وبصمة ختمت على قلوبنا وشماً لكف فقد إبهامه بعد أن انحنى وحيداً ووقفت باقي أصابعه مرفوعة الرأس.

لا أعرف لم كل هذا الصراع النفسي الذي تحمله ذكرى المذبحة الى جوانحي، ولماذا لم يتصالح الوشم بقلبي مع عقلي الذي أنكر المذبحة بعد حدوثها ورفض التفويض قبلها، ما الذي يمكن فعله حتى يتوقف الوشم عن زرع المرارة في جوفي، وتتوقف رائحة الدم المنبعثة من خطوطه، هل إلى تطهير النفس من سبيل؟!

يحسب المتابع للأحداث من خلف الشاشات ومن أمام الكلمات أن المشاركة في حدث يفضي إلى كارثة هو ما يورث الشعور بالذنب، وهو ما يحفر الذكرى، ولكن حقيقة ما عايشته تقول، إن العكس أكثر دقة، فعلى الرغم من مشاهد الدم التي عايشناها واقتراب الموت منّا في لحظات حتى يختطف روح صديق أو عينه، إلا أنها تحمل بعضاً من العزاء في وجودك إلى جواره، تسمو روحكما معاً ليختار الموت أحدكما، ولكن أن يقف وحيداً في مواجهة الموت بينما تفلت من المواجهة، هو ما يخنق الروح ويزرع الذنب بداخلك، على الرغم من عدم معقولية الفكرة إلا أنها للأسف ما يحدث فعلاً، يتوازى في ذلك مرارة الشعور بالذنب تجاه ضحايا رابعة مع ضحايا ماسبيرو وكل ضحية سقط في مشهد لم أحضره، ليس للدفع عنه فلا يملك أحد دفع الموت، خصوصاً إن كان برصاصات العسكر، ولكن لتتسابق روحانا فتصل أزكاهما.

وأما العجز فهو الجرح الأكثر غوراً، فإن تحايلت على شعورك بالذنب بتصاريف القدر أو بالخلاف السياسي الذي منعك من التشارك، لن تقدر على تبرير عجزك عن الثأر من قاتليهم، وربما عجزك عن مجرد التضامن معهم، لم تمر مذبحة واحدة للعسكر في أعوام الثورة الأولى دون عمل احتجاجي لرفض الواقعة، أو للتذكير بها وتوثيقها، مر عامان على المذبحة ولم أشارك في عمل واحد لصالح ضحاياها.

عامان على المذبحة ولا أملك ترياقاً للشعور بالذنب والعجز، عامان والوشم محفور داخل القلب يمنعه من الخروج مزيد من العجز عن التصالح مع النفس والإقرار بالذنب، عامان والرغبة في الإقدام على فعل يطفئ لهيب الجرح تكبلها قيود العمل السياسي ويكممها رعب من دفع الثمن مدثراً بغطاء من الثورية العقلانية.

في محاولة أخيرة لوقف الألم ومداواة الجرح، مراجعة مع النفس تسفر عن قرار بطبع ما في القلب من ألم على ورق في صورة كلمات تنزف دماً، وطبع الوشم ذي الأصابع الأربعة في صورة أرفعها مواجهاً بها نفسي.

(مصر)

المساهمون