رابطة المُهرّبين الأحرار

رابطة المُهرّبين الأحرار

20 يوليو 2020
(مقطع من عمل لـ حيدر الزعيم / العراق)
+ الخط -

الأربعاء السادس من تمّوز/ يوليو 2013.
بحر إيجة.

كانوا أكثر من أربعين شخصاً فوق الطّوف المطاطي الأسود، الرجلُ التركي، ذو الشّارب الغليظ المُدبّب من طرفيه، كإزميل برأسين، وشابان آخران يساعدانه، وزّعوا عليهم سُترَ النّجاة الفسفورية. قال هذا، فقط، كل ما لدي من ضمانة. ومن السّهولة بمكان، أن تطوفوا بها فوق المياه، مثل فلينات.

قالت امرأة شابة: أريد واحدة أكبر، أنا سمينة مثلما ترى. لا بأس، إنها تُناسب مقاسك، قال رجل بالقرب منها، فقط افتحيها على وسعها، من هذه النّاحية، وأشار لها بيده. هل سنغرق؟ سألت عجوز. ربما، علّق رجل آخر، ثم انهمك بارتداء السّترة. من زاوية الطوف، جاء سؤال مُغلّف برجفةٍ في النبرة: هل سيطلقون النار علينا؟ في عرض البحر، هل سيطلقون النار علينا هناك؟ صلّي إلى الله لكي لا تصل الأمور إلى هذا الحد. ردّ أحدهم.

تلك الأسئلة كانت موجّهة بشكلٍ مباشرٍ إلى الرجل التركي، القبطان، لكنه، وكما هي عادة الأشخاص الذين يترأسون شيئاً ليس بتلك الأهمية، لكنهم يُصرّون على إيصال صورة مفادها أن الحديث معي ليس بهذه السهولة فأنا القائد، بقي صامتاً، بملامح متجهّمة، يتجاهل الركاب، وينظر إلى الأفق بعينين خضراوين مزرودتين برزمةٍ من التّجاعيد، لكنّه بين الفينةِ والأُخرى، يرمي كلمتين أو ثلاثاً، ينهر أحدهم أو يصرخ بالصبية الذين يُساعدونه. أخيراً قال لهم، وبالبرود ذاته، وبعربية جيدة. استمعوا الآن لي، لا بد أنكم تعلمون بلا شك بأنني القائد هنا، وأنا أفضّل الصّمت على الكلام، لكن هناك معلومة واحدة أريدكم أن تدركوها، إنّنا نبحر، ليس على صفحة المياه المالحة، وإنما على كفّ عفريت، عفريت البحر نافذ الصّبر، لذلك فإن نسبة الغرق خمسون بالمئة، تماماً كما هي نسبة النّجاة.

عمّ الوجوم فوق الطوف. كانوا بانتظار أي تصريح آخر مطمئن من هذا الرّجل، إنهم هاربون من الموت المؤكد، فليس من المنطق أن يهربوا من الموت إلى موتٍ آخر، فليوفّروا عناء الهرب إذن وتكاليفه. وبعد برهة، أضاف الرجل، ونسبة الموت، من الغرقى، خمسون بالمئة أيضاً، حيث تصل إليهم القروش الجائعة، تأكلهم على شكل قطعٍ كبيرة، وتترك الفتات للهوائهم والأسماك الصغيرة التي ترافقها مثل موكب. وأشار بيده، فرك السبابة بالإبهام، كي يوصل لهم ضآلة ذلك الفُتات المتبقي.

ليس الحديث معي بهذه السهولة، فأنا القائد

وبينما يوازن غالونات الوقود البلاستيكية إلى جوار بعضها البعض، ويتأكد من ثباتها، قال بأنّ كل ما عليهم فعله هو ارتداء هذه السّتر بشكلٍ جيد والتَّصرف بهدوء شديد، وألا يفزعوا إذا ما حصل أمرٌ ما؛ أن يرتفع الموج ثم ينقلب بهم الطوف ويصبحون تحته مثلاً. وهذا كله لأجل أنهم يبحرون على كف ذلك العفريت كما قال، عفريت الخمسين بالمئة.

عن هذه الجزئية تحديداً قال أشياء مُهمة، بحيث أن كل ما عليهم فعله هو التّحكم بالأعصاب. إن الأمرَ كله مُتعلق بهذه الخيوط المطاطية. إنها اللحظة الحاسمة. لحظة التّحكم بالأعصاب والسّيطرة عليها لجعلها مثل حيوانٍ أليف.

هذه وجهة نظره حول الأعصاب، ثم وكما لو أنه، أيضاً، عالم نفس محايد ينظر إلى الشق العميق من المسألة، قال إن الحروب، بشكلٍ عام، لم تكن لتقع لو كان هناك تحكّم مدروس وبسيط بهذه الأعصاب، لأن النيران في هذه الحالة، كل النيران في الحرب، ما هي إلا نيران صديقة، فنحن أبناء آدم. لأن هذا الأخير، لو ظهر لنا الآن من الغيب، لمسح على رؤوسنا جميعاً بكلّ محبة وحنان، وقال: رفقاً ببعضكم البعض، حنانيكم، يا أبنائي.

ثم طلب منهم أخذ النَّفَس بشكلٍ جيد عندما ينقلب بهم الطوف، ثم العوم من تحته، بهدوء، إلى أن يطفوا على السّطح، وهناك يتوجّب عليهم البقاء هادئين، مع ذبذباتٍ خفيفة بأطرافهم، مثل عوامةِ شبكة صيد.

انتهى من كل شيء، ثم وقف في المنتصف ليكمل المحاضرة. حاول أن يقول، بالإضافة لتلك الملاحظات، فلسفية البُعد، والتي اكتسبها من كونه، منذ نعومة أظفاره، ملاصقاً لكبار البحّارة الحكماء، المتمرسين، والمهرّبين الأيديولوجيين، الصعاليك، المناهضين لقوى الشّر المتغطرسة، بأنه يختلف عن الآخرين، الضئيلين فكرياً، السّاعين وراء المال فقط، الذين، كما أكد، يمتهنون هذه المهنة بشكلٍ تجاري صرف، يُصرّون على التّعامل مع اللاجئين كما لو أنهم قطيعٌ من المواشي يجب نقله نحو الضّفةِ الأُخرى بأي شكلٍ من الأشكال، فهو، وبدافعٍ من مبادئه السّامية، يسلك سُلوكاً مغايراً تماماً لأولئك الموغلين في الفُحش، إنه يهتم بهولاء المساكين، يُراعي إنسانيتهم وحاجاتهم بادئ الأمر، ثم ينظر أخيراً إلى النّقود في أيديهم، وهي التي تمكنه من الإستمرار في نضالاته، لا أكثر، مُتفهّماً تلك الأسباب التي دفعتهم، رغماً عنهم، لخوض هكذا غمارٍ ضبابي المآل ومؤلم.

لا نُبحر على صفحة مياه مالحة وإنما على كفّ عفريت

قال بأنه يدرك جيداً أن كل واحد منهم ترك، خلف ظهره، بيتاً رائعاً مليئاً بامتدادِ الحب وظل الياسمين، وباللحظات الوردية السّعيدة، وأن الأمور خرجت تماماً من أيديهم، بل انزلقت انزلاقاً، كأنها مطلية بالزيت، وذهبت، على الأغلب، إلى يد الله التي لا ينزلق منها أي شيء، كما أكد، لذلك هربوا وسلكوا هذا الطريق المحفوف بالقُروش ومواكبها، والأهوال والمخاطر.

ثم أضاف القبطان شيئاً حول نسبته الذهبية، قال إنني من أصول بلقانية مهجّرة أيضاً، حيث جاء أجدادي إلى هنا، لذلك بكل حزنٍ أقول لكم: خمسون بالمئة ممن يتركون بيوتهم، بسبب الحرب، لا يعودون إليها بعدها، إن تلك الغُرف البسيطة، المحفوفة بأشجارِ الورد والزيتون، والمُعلّق على جدرانها أهلّة وصلبان، وآيات من القرآن والإنجيل، وصور للآباء والأجداد بشرائط سوداء على زواياها، ستؤول إلى كتالوناتٍ مهجورة قذرة، نوافذها محطمة، والقذائف التي حطّمت تلك النوافذة ما زالت هناك، بكل وقاحة، ماثلة، بأحجامٍ متفاوتة، مبعثرة فوق الأرضية. كتالونات متروسة ببيوت العناكب وأعشاش الطيور، وزرق الفئران، وذلك، بطبيعة الحال، قبل أن تُهدم لصالح الدولة ومُتنفذيها.

إنه، وبحسب ما تجود به اليد، يُحاول أن يقف إلى صفّهم، أن يُحارب نسب الغرق، يُقللها، قدر المستطاع، لصالح نسب النّجاة. إنه، وبسببٍ من إيمانه المطلق بالعدالة وقيم المساواة، وانتمائه لرابطةِ المهرّبين الأَحرار، زهيدي الأجر المادي، يبقى في مواجهةٍ دائماً عنيفة مع دولٍ كبرى في الجوار وليس مع البحر، بحدِ ذاته. لأنه، كما يؤكد، قد قام بترويضه: "فلتعلموا أني روّضتُ البحر، ما أمكن. وضعتُ له لجاماً".

وفيما بعد، وعندما ذكّره أحد الركاب بمقولته هذه، حول ترويض البحر، عندما اشتد عليهم الموج، وراح يلعب بهم كما لو أنهم قاربٌ ورقيّ صغير. قال، بغضب، والعروق تنفر من رقبته بينما يحاول تثبيت الدّفة: أجل روّضته، لكنّ الفرس قد تُصاب بالحرنة، وهذا ليس من شأنه أن يُعيب الفارس.

في زاوية الطوف، كحبّات عنبٍ مرصوصةٍ إلى بعضها البعض في قطفٍ عائم، تجلس النّسوة وبينهن الشابة غادة تقنومة، وفي حجرها ينام الأخ الأصغر مترنحاً من الوهن والألم. ساهبة، شاردة الذّهن، أمعاؤها فارغة، والعرق ينزُّ من صدغيها كشمعةٍ تذوب، بالكاد تُعير ما حولها أي إهتمام. إنها تتذكر، على حالة الذبول تلك، وبشكلٍ عشوائي وغائم، ما حدث خلال الشّهرين المنصرمين. تعود بها الذاكرة المتشظّية إلى الوراء قليلاً. إلى تلك الأوقات العصيبة، في مُخيّم الزعتري للآجئين.


* كاتب من الأردن والنص مقطعٌ من رواية له قيد النشر

كتب
التحديثات الحية

المساهمون