رابح من حرب العراق لم يطلق رصاصة

رابح من حرب العراق لم يطلق رصاصة

19 سبتمبر 2020
+ الخط -

وسط زحمة الأخبار العابرة هنا وهناك، جرى حدث مهم، سحب الولايات المتحدة أكثر من ألفي جندي أميركي من العراق في شهر سبتمبر/ أيلول الجاري، إذ قررت الولايات المتحدة خفض وجود قواتها من 5200 إلى ثلاثة آلاف جندي. ويعكس القرار حالة من انعدام الأمن العميقة التي تواجهها القوات الأميركية المتمركزة في قواعد العراق، والتي تتعرض لنيران منتظمة من المليشيات المدعومة من إيران، في أعقاب قرار الرئيس الأميركي، ترامب، قتل القائد الإيراني قاسم سليماني بداية العام الحالي. 

ولم يكن دخول الولايات المتحدة الأميركية العراق، غزواً، سعياً منها إلى بناء عراق قادر على أن يدافع عن نفسه أمام الإرهاب، كما ادّعى قائد منطقة القيادة المركزية في الشرق الأوسط وأفغانستان، الجنرال فرانك ماكينزي، وهو يعلن قرار تخفيض الوجود العسكري الأميركي داخل العراق، فإدارة صدام حسين، على الرغم من كل المؤاخذات التي يمكن للمرء أن يضعها عليها، كانت توفر هذا للعراق بنجاح. 

كان غزو العراق عام 2003 بمثابة منعطف رئيسي في العلاقات بين الصين والعراق

كان دخول الولايات المتحدة لأسباب جيوسياسية عديدة واقتصادية، أبرزها النفط، والذي كلف العراق والولايات المتحدة معاً الكثير، في واحدةٍ من حروب الولايات المتحدة، القائمة على مبدأ "خاسر/ خاسر". ولكن على الرغم من أن طرفي النزاع يعدّان خاسرين، إلا أن هذه الحرب تعرف وجود رابحين داخلها. وهنا ربما يتبادر إلى ذهن القارئ أن الحديث عن إيران، باعتبارها دولة محورية في المنطقة، استفادت من غزو العراق سنة 2003 في تمديد نفوذها داخل المنطقة. ولكن على الرغم من أن إيران بالفعل هي أحد الرابحين الكبار في هذه الحرب، إلا أن الحديث هنا عن طرفٍ لم يطلق رصاصة واحدة ليكون من بين الدول الرابحة في هذه الحرب، إنه الصين، يمكن لمس هذا الانتصار، حينما نعلم أن شحنات النفط العراقية إلى الصين زادت بنحو 30% عن العام السابق، وشكلت أكثر من ثلث إجمالي صادرات العراق. في المقابل، انخفضت صادرات النفط العراقي إلى الولايات المتحدة بمقدار النصف تقريباً في النصف الأول من هذا العام.

لم يكن دخول الولايات المتحدة العراق، غزواً، سعياً منها إلى بناء عراق قادر على أن يدافع عن نفسه أمام الإرهاب

كان غزو العراق عام 2003 بمثابة منعطف رئيسي في العلاقات بين الصين والعراق. في نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، صوتت الصين لصالح قرار مجلس الأمن 1441 الذي سمح باستخدام القوة إذا فشل العراق في الامتثال لقرار الأمم المتحدة، الداعي إلى نزع سلاح العراق. ولكنها عارضت رسمياً، وعلى غرار فرنسا وروسيا، عملية غزو العراق، ثم لم تتخذ أي خطواتٍ عملية لمنع ذلك. عارضت تلك الحرب رسمياً، ولم تتوقع أن تكون أكبر المستفيدين منها، فاحتلال العراق يمكن أن يُنظر إليه على أنه أحد المكاسب الاستراتيجية الكبرى للصين، بحكم أن السياق جعل من العراق متشابكاً مع الصين بوصفه شريكاً مهماً في مجال الطاقة والتجارة والأسلحة. وقد اعتبرت الصين العراق مكوناً مهماً في استراتيجيتها، لا سيما بسبب إمكاناته النفطية.

احتلال العراق أحد المكاسب الاستراتيجية الكبرى للصين، بحكم أن السياق جعل من العراق متشابكاً مع الصين بوصفه شريكاً مهماً في مجال الطاقة والتجارة والأسلحة

من هذه الجهود، إلغاء الصين 80% من ديون العراق البالغة 8.5 مليارات دولار، كجزء من صفقة أبرمتها الولايات المتحدة مع نادي باريس. وتم التعبير عن سياسة الصين، فيما يتعلق بإعادة إعمار العراق. وأظهرت هذه السياسة ثمارها في حجم المبادلات التجارية التي ربطت الصين بالعراق، إذ كانت هناك زيادة هائلة في الصادرات الصينية إلى العراق في العقد الذي أعقب الغزو؛ حيث بلغت القيمة السنوية للصادرات الصينية إلى العراق سنة 2003 ما يقارب 56 مليون دولار، تحولت بعد عقد، في 2013، إلى ما يقرب من سبعة مليارات دولار. ولا يبعث هذا على الاستغراب، فبحلول عام 2011 كانت الصين ثاني أهم شريك تجاري للعراق بعد الإتحاد الأوروبي، فمعظم واردات العراق يرد من الصين، متقدمة بذلك على الولايات المتحدة التي تمثل 11% فقط من إجمالي الواردات. وهو ما ينعكس في انخراط الصين في قطاعات عديدة، منها قطاع البناء، حيث انخرطت في مشاريع لبناء الطرق والمستشفيات، ومشاريع الإسكان. وساهمت شركة Sinoma في بناء سبعة مصانع لإنتاج الإسمنت في العراق لتلبية الطلب المتزايد. فضلاً عن صناعة السيارات المتنامية بين البلدين؛ تمتلك الشركة المصنعة الصينية، شيري، خط تجميع سيارات في العراق. بالإضافة إلى قطاع الاتصالات الذي يعرف وجوداً قوياً لـ "هواوي"، باعتبار هذه شركة صينية تقدّم خدمات في مجال الشبكات والاتصالات السلكية واللاسلكية.

زادت شحنات النفط العراقية إلى الصين بنحو 30% عن العام السابق، وشكلت أكثر من ثلث إجمالي صادرات العراق

في المقابل، زادت الواردات من العراق بشكل كبير، في العقد الذي أعقب الغزو، إلا أنها اقتصرت على النفط والغاز. ربما يمثل النفط نحو 98% من إجمالي الصادرات العراقية إلى الصين منذ 2009، إذ بلغ إجمالي الصادرات العراقية إلى الصين 16 مليار دولار سنة 2013، بعدما كان في سنة 2003 يقدّر بـ 317 مليون دولار فقط. في عام 2006 استوردت الصين أقل من 1% من نفطها من العراق، ولكن بحلول عام 2013 قفز الرقم إلى أكثر من 8%، متجاوزاً بذلك الجزائر وإيران. فضلاً عن نشاط شركة الصين للبتروكيماويات (SINOPEC) في أحد الحقول الكبيرة التي تمثل حوالي 30% من إجمالي إقليم كردستان العراق. 

وبخصوص الأسلحة بعد غزو العراق، لم تكن هناك مبيعات كبيرة مع الصين، على الرغم من رفع العقوبات في عام 2004، إذ كانت الصفقة الأولى في 2007، عندما اشترى العراق أسلحة صغيرة بقيمة مائة مليون دولار لاستخدام قوات الشرطة. وعزا العراق عملية الشراء إلى بطء وتيرة تسليم الأسلحة الأميركية. الإحصاءات حول صادرات الأسلحة إلى العراق شحيحة، ولكن التقارير تفيد بأن الصين رفعت من وتيرة تجارتها في السلاح، إذ زوّدت العراق بمركبات مدرعة وصواريخ مضادة للسفن وطائرات بدون طيار، في عام 2014.

باختصار، نحن أمام دولة انتهجت في العراق نهجاً مناقضاً للذي اتبعته الولايات المتحدة، قائماً على التمدّد الناعم الذي جعل الصين تخرج بمكاسب مهمة من غزو هذا البلد، من دون أن ترسل جندياً واحداً إليه، أو تطلق رصاصة واحدة داخله. لقد جعل هذا النهج إمدادات الصين النفطية متنوّعة أكثر، حتى لا ترتهن لدولة معينة، ونظر إلى العراق على أنه "سوق" بدل أن يكون "منتج/ النفط"، ومنطق "السوق" يبتلع دائماً منطق "المنتج".

أمكور
عثمان أمكور
باحث مغربي في العلاقات الدولية والفكر السياسي