رائحة أخرى لحمص
رائحة أخرى لحمص

أدمع عينيَّ سؤال فتاة من حمص عن دواء لابن خالتها، الذي بات جسمه يتفتت بفعل قذيفةٍ طرحته أرضاً منذ أشهر. هذه القذيفة لم تبتعد عن فلسفة النظام السوري في انتهاج نهج القذائف والصواريخ على شعبٍ بات بأكمله بلا ذاكرة، بلا وطن. ولأننا نتحدث عن التفاصيل، وما نزال، فمن الطبيعي أن نرى الباصات الخضراء التي باتت تغطي مساحة حمص القديمة، ذلك اللون الذي كرهه السوريون، كونه ارتبط بالجيش والشبيحة والأمن، وقبله كانت حملات النظام واضحة في الاتصالات والشعارات "الأخضر يغطي سورية".
ربما بات الموت يغطي سورية، أو الأخضر المميت الذي لا طائل منه سوى الألم والمزيد منه أيضاً. أستذكر في هذه اللحظات، جيداً، تجميع النظام السوري المدنيين في منطقة الوعر الحمصية، والتي امتلأت وقتها بأكثر من نصف مليون مكلوم، لا حول لهم ولا قوة. واليوم باتت القصة مشابهة لما حدث، وصارت المخاوف تتزايد أكثر مما كانت عليه، بل والتجربة قد تُعاد. واليوم تُقصف الوعر بكل وحشية.
كل هذه التفاصيل، ونحن نقرأ، منذ أيام، دموع الخارجين من حمص، ودموع الداخلين لرؤية منازلهم المدمرة، ورؤية الأثاث المسروق قبل التدمير. قد لا تسير الحياة على مهل في مدينة ابن الوليد، بعد أن أصبحت أيام الأربعاء من أسوأ أيامها، بعد أن كانت من أكثرها فكاهةً وضحكاً. وتمضي حياة حمص بعيدة عن العالم، بعد أن قطعت هذه المدينة التراجيدية الأمل منه، ومضت خاوية من أي شيء، إلا الألم، فلن تعود المدينة كما كانت.
عن أي حياة نتحدث، وأي واقع نحلم وفي كل بيت ثمة قصص كثيرة؟ والأدهى أن البيت أيضاً "حاوي الذكريات والألم" قد رحل.. فماذا بقي إذن؟
بين الوعر والدار الكبيرة وتلبيسة، يتخوف "الحماصنة" من تكرار سيناريو قصف النظام الأماكن الآمنة، والأهم هم الثوار في السيطرة على الكلية الحربية، لأن الأمور، وقتها، لن تكون لمصلحة أحد، بعد أن يئس الناس من الحرب، ورأس النظام السوري سيجلس على كرسي الرئاسة مجدداً، قبل أن يصرح بأنه في حالة عدم فوزه بالانتخابات الرئاسية، سيعود إلى مزاولة عمله طبيب عيون!
هي فلسفة الألم والاستخفاف والقهر معاً، بعد ثمانمائة يوم من الحصار والموت والقتل.
صور حمص والتفاصيل الكامنة وراء تسليم هذه المدينة إلى النظام مجدداً، لا تغيب عن الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، بينما تسير المدينة على إيقاع الموت والرقص على جثث الأبرياء، في مدينةٍ كانت تحيا قبل ذلك بالحب والكوميديا، وباتت تشبه طروادة اليونانية.
ومن حيث ذاك الاتصال من الفتاة الحمصية، لا يمكن التكهن بأي حقيقة في العالم، بعد الآن، ولا بأي إنسان سيُعيد إلى حمص البهاء. فلا أحد بات مقتنعاً بحلول لا تطعم خبزاً، ولا تهيئ مسكناً، ولا تلئم جرحاً سورياً.