ذهن غليظ

ذهن غليظ

30 ابريل 2017
+ الخط -

مدّت يدها ببساطة لتصافح أحدهم ذات يوم، فردّ كفه نحو صدره، وعلى وجهه علامات الاعتذار التي تقول "لا أصافح النساء".

ابتسمت لأن الأمر كان مفاجئا لها، وتحولت الابتسامة إلى ضحكة مكبوتة من شدة استغرابها للموقف. لم يسبق لها أن مرّت بوضع مشابه قبل ذلك في محيطها الأسري أو الاجتماعي. وصارت تجتهد حتى تكبت ضحكة أعلى كان يمكن أن تفلت منها، لولا أن صديقتها انتبهت وسارعت إلى تغيير الموضوع، وجذب تركيزها مجددا نحو هدف اللقاء.

كان موضوع اللقاء يومها مع الشخص الذي "لا يصافح" هو التعرف على مجال عمل المؤسسات التي يديرها، وكانت لديها فكرة سابقة قبل اللقاء بأن الرجل متدين، لكن يبدو أنها تركت سرعة بديهتها عند الباب قبل دخولها، لذلك لم تنتبه أبدا لمسألة المصافحة تلك.

استمر الاجتماع أكثر من نصف ساعة، وخلال تلك الفترة انحصر تركيزها بالنقاش والأسئلة المتبادلة ومحاولة أخذ أكبر قدر من المعلومات المفيدة. وبما أن العادة هي سابع طبيعة، انتهى اللقاء وبكل عزم وتصميم مدت يدها بحكم العادة لتصافحه مودعة، فما كان منه إلا أن نظر إليها نظرة تحمل من التأنيب والتعجب ما تحمله، وردّ يده مجددا نحو صدره رافضا مصافحتها.

هي ثوانٍ معدودة تعدى فيها تصرفها على تفكيرها، حركتها سبقت إدراكها، وفات أوان التراجع. وتعطل نباهتها الذي جعلها تتصرف بعفويتها المعتادة أضحكها من جديد. اعتذرت وأبدت أسفها لعدم تدارك الموقف.

لم تضحك من تصرفه مطلقا، لكنها ضحكت على نفسها لأنها لم تستوعب الدرس من المرة الأولى.

أين أنت يا بافلوف، وأين تجاربك عن الاستجابة الشرطية التي تعتمد في أساسها على التكرار. شعرت بأنها تحتاج إلى دورة تدريبية تعوّدها على عدم مدّ اليد كلما رأت شخصا غريبا للمرة الأولى، وتعلِّمها أن حدود التعارف تقف عند المخاطبة فقط.

مرّت الأيام واندمجت مجددا في محيطها الذي لا يعطي بالاً لشروط المصافحة. وهذا لم يكن في صالحها دوما، لأن لا وعيها بقي متربصا بها، ينتظرها حتى تبادر بأية "مصافحة" في غير محلها ليشمت بها، ويحاسبها، ويغالي في تأنيبها أيضاً، خصوصا أن التجارب اللاحقة بيّنت لها أنها صاحبة ذهن غليظ يحتاج فعلاً للتطويع، ودروسا بالتكيف حينا والإجبار أحيانا.

وبعد تلك الفترة بدأ يكثر في جامعتها عدد الشبان الذين لا يصافحون، وما لبثت أن اعتادت الفكرة وصارت تحاول قدر المستطاع تبيّن الموقف من هيئة الشخص ومظهره الخارجي، ولو كان الحكم بهذا الأسلوب ليس قاطعا. صار الأمر أسهل مع الوقت لأنها باتت تستطيع التفريق بين الموافق على المصافحة والممانع لها.

نفعها أسلوب بافلوف بالطبع في التخلي عن المبادرة والاندفاع والتلقائية ليس في المصافحة فقط بل بغيرها أيضا، فلم تعد تبادر في التحية بل صارت تتأنى وتتمهل قبل السلام على من تعتبرهم "غير مصافحين" منعا للإحراج المحتمل. 

بعد مدة انتقلت للعمل خارج البلد، ووجدت نفسها في وسط متعدد الجنسيات والأعراق، عادات وتقاليد ومعتقدات مختلفة. بعض أصحابها يظهر عليهم شكلا أنهم لا يصافحون، لكن بعضهم الآخر لا ينبئ مظهرهم بذلك مطلقا.

وقعت في فخ المصافحة مرات قليلة، لأن الشكل خدعها ولأن أسلوب الترحاب والود كان يوحي أحيانا بأن المصافحة أمر وارد.

لكن ما أضحكها في المرة الأولى، صار يزعجها في المرات اللاحقة، ثم صار يغضبها، حتى انتهى بها الأمر بعد سنوات إلى إلغاء المصافحة من قاموس سلوكها، ولم تعد تصافح الآخرين مهما اختلفت أشكالهم.

دلالات

61B986DE-2650-44DE-86DA-74469348610B
سهى أبو شقرا

صحافية وكاتبة.. بدأت تجربتها في لبنان، ثم تنقلت بين الكويت والإمارات وقطر. عملت في إعداد البرامج التلفزيونية والإذاعية، ومنها برامج الأطفال.