ذلك الأزرق المضلل

ذلك الأزرق المضلل

04 فبراير 2019
+ الخط -
كشفت تقارير إحصائية عن أرقام هائلة لعدد المنسحبين تباعا من عالم "فيسبوك"، وذلك في أميركا ودول غربية متقدمة، بعد ظهور دراسات اجتماعية ونفسية متخصصة كثيرة، تربط بين التعلق بذلك الأزرق المضلل وأمراض الكآبة والتوحد والميل إلى العزلة. كما أكدت هذه الدراسات أن الاستخدام المفرط لهذا الفضاء، وغيره من المواقع المشابهة، شكل حديث وخطير من الإدمان الذي يستدعي، في مراحله المتقدمة، الخضوع إلى العلاج، حيث يعاني المدمن مختلف أعراض الانسحاب من حزنٍ وفراغ نفسي ووحشةٍ تحتم عليه البحث عن بدائل تكفيه شر الانقياد الأعمى إلى عوالم وأمزجة وعلاقاتٍ، يعتقد أنه يملك حرية اختيارها. والحق أن الأمر لا يحتاج إلى دراساتٍ كثيرة في هذا السياق، كي نتفق مع النتيجة، فالأمر واضح وجليّ لنا جميعا ممن ابتلاهم الله بهذا الداء العضال، إذ يشكو كثيرون من رواد مواقع التواصل الاجتماعي، من تعلّقهم المرضي، وعجزهم عن الاستغناء عنه، ويعترفون بأنه سلب حياتهم، وعطّل قدراتهم على الإنتاج والابتكار، وكرّس إحساسهم بالوحدة والانعزال عن إيقاع الحياة الهادر، بعيدا عن شاشاتهم المفتوحة على الافتراض، تحت وهم التواصل اليسير والمتاح على مدار الساعة، إضافة إلى انتهاك خصوصياتهم، وكشف عيوبهم ونقاط ضعفهم الإنساني، كما يقرّون بأنه عزّز الأنا لديهم إلى درجة جنون العظمة، ووهم التفوق والمثالية المطلقة. الشواهد على تلك النماذج المشوّهة، المصابة بالفصام، أكثر من أن تُحصى. 
شخصان يظهران في صورةٍ حميمةٍ، متعانقين مبتسمين، مع عبارةٍ كاذبةٍ توحي بأنهما أعز الأصدقاء، في حين الكل يعرف تماما كم يكرهان بعضهما، وكم يغتاب أحدهما الآخر. زوجة تشكو أمام الصديقات من طباع زوجها الحادّة، وتهمس برغبتها في الطلاق منه، لأن الحياة معه باتت لا تُطاق، وقد اكتشفت خيانته المتكرّرة. ومن باب كيد العشيقة المستترة، وفي الوقت الذي تستكثر عليه تحية الصباح، تنشر صورتها تحتضنه، مبتسمةً أمام كعكةٍ شموعُها مضيئةُ، وتذيّلها بعبارة عيد ميلاد زوجي حبيبي، الله لا يحرمني منك، يا غالي! أم عصبية تعاني من شقاوة أولادها المراهقين، وقلة أدبهم، تغدق عليهم في صفحتها صفاتٍ لا يملكونها، ربما من باب التمنّي والإصرار على مهاراتها في التربية الحسنة! كاتبٌ من النوع الدجال المكشوف للجميع مقدار انحطاطه الأخلاقي، تزخر صفحته بتعليقاتٍ لا تخلو من المديح العالي لمناقبه ومزاياه الرفيعة، من زملاء لا يفوّتون فرصةً في مجالسهم الخاصة لهجائه بأقذع الصفات. وعلى الصعيد السياسي، سوف ترى العجب العجاب من ألوان التملق والرياء والنفاق الذليل، المثير للغثيان، يتجلى ذلك في المناسبات الوطنية خصوصا. شاب ينتهك خصوصية مرض الوالد الوقور، فينشر صورةً له ممدّدا على السرير في غيبوبة، موصلا بالأجهزة في غرفة العناية الحثيثة، وثانية تحتضن شاهد قبر والدتها، في استعطاف رخيص مثير للرثاء.
أما جماعة الاستعراض المجاني الذين ينطبق عليهم المثل العربي "هجين ووقع بسلة تين"، فإنهم سوف يثيرون الغثيان، وهم يوثقون بشكل دقيق أسفارهم، منذ لحظة ختم الجواز، وابتياع التذكرة، وسماع إرشادات المضيفة عن كيفية التصرّف في حال تحطم الطائرة، ولحظة هبوطهم سلم الطائرة، منفعلين من فرط البهجة، ثم يمطرونك بوابلٍ من التفاصيل التي لا تعنيك لوقائع رحلتهم خطوة بخطوة، لتكتشف أنك بلغت الدرجة القصوى من حالة القرف، تجاوزت مرحلة اليقين بأن هذه الفضاءات المسمومة تستنزف طاقتك بدون جدوى، وأنك في حالٍ أفضل، كلما تمكّنت من الابتعاد عنها. سوف تصل إلى هذه النتيجة بسهولة هذا الصباح بالذات، وأنت تتجوّل بين الصفحات، بحثا عن فكرةٍ إيجابيةٍ، من شأنها أن تبث فيك الأمل. تتابع تعليقاتٍ عن مباراة قطر واليابان، وأنت لا تفقه شيئا بقواعد اللعبة، أو مجريات كأس آسيا، تفرح لبرهة لردود أفعال عفوية بريئة، تعبر عن بهجةٍ بفوز قطر على اليابان، وحصولها على الكأس، ويثير فزعك حجم الحقد في نفوس بعض العرب، ممن طلوا سحناتهم بألوان العلم الياباني الشقيق. تُنشر بشكل واسع صورة لسيدة إماراتية ترتدي عباءة سوداء، وتزين جبينها باسم اليابان، نكايةً في الجيران، وقد نسيت، في غمرة الكيد، أن بلاد العرب أوطانها، كما ورد في النشيد الذي تعلمناه صغارا. تضحك من عمق مرارتك، وتشكر الله على أنك أوشكت أن تصبح من الناجين، وأنك تتخفف تدريجيا من كل هذا البؤس والقبح والسواد والتلوث.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.