ذكريات دم وأوشحة خراب

ذكريات دم وأوشحة خراب

17 اغسطس 2017
+ الخط -
إمام، شاب يبلغ سبعة وثلاثين عاماً، موظف في هيئة السكك الحديدية، يبقى في الدوام حتى الثالثة عصراً، وبعد العصر يَفلح في الأرض "فلاحاً"، حتى يتمكن من تدبير احتياجات أسرته.
بذر عمله في الأرض في قلبه معاني الرجولة والمروءة، وإن كان يتسم بجزء من مكر الفلاحين ودهائهم، لكنه يمقت أشد ما يمقت الخسة والخيانة، ففكرة أن يدهس في أرض جاره، أو يكسر عوداً من محصوله غير واردة على الإطلاق، فحرمة أرض الجار مثل حرمة بيته.
كان هذا التكوين النفسي المثابر والفطري السليم مؤهلاً لأأن يتفاعل، ولو بقلبه فحسب، مع نداءات الحرية والكرامة والعيش الكريم. في بداية الأمر، كان يُخفي أي تأييد قلبي لهذا الهياج الشعبي، خوفاً من أن يشي به أحد، فيخسر عمله وتجوع أسرته، خصوصاً أنّ جُلّ البُروليتاريا لم تكن تستوعب فكرة سقوط هذا الصنم الذي حكمهم ثلاثين عاماً، بل على العكس، أحس بعضهم بالغَضَاضَة من تلك المظاهرات.
لما بزغ نجم ثورة يناير في السماء، وأيقن الجميع أنّه ليس ثمة أي قناصة تستطيع أن تُدمي هذا النجم في كفنه، وأنّ هذا الحراك قادم لا محالة، وأنّه ليس مجرّد هياج شعبي، بل ثورة جامحة، بدأ إمام يهتف بين زملائه، وبين الفلاحين، لهذه الثورة، يُلبِس هؤلاء المتظاهرين عباءة البطولة والشجاعة الخالصة، فهم المُخلٍّصون من سنوات القهر والعبودية، هم أمثال سبارتاكوس، أما نحن، العبيد المستكينون، نهتف من وراء الجدران، نحن المُتفرِجون المُصفِقون على الأرائك والكَنَب، ثم يسأل إمام: لماذا لا نتجاسر ونذهب إلى ميدان التحرير؟ أما يستحقون أن نمنحهم حناجرنا وأرواحنا؟ يهمهم زكريا بكلام غير مفهوم، لكن يتضح من لهجته أنه يعترض على إمام، ثم يقول عيسى: "جرى إيه، يا إمام، إحنا هنسيب عيالنا ونروح التحرير"، فرد عليهم: "يا رجالة، أنا مش وطني أكتر منكم، بس أنتم عارفين إلي بييجي بالساهل بيروح بالساهل، الحرية لازم نعرق عشانها وإلا مش هنعرف نمارسها وهنفرط فيها لأول نخَّاس".
على مائدة العشاء في إحدى ليالي صيف 2012، أخذ إمام يحث أولاده على الاجتهاد في الدراسة، فمصر تكتسي بثوب جديد، يردّد: "الأيام إلي جايه أيامكم يا ولاد، إلي هيلتفت لدراسته هيكون له مكانه حلوه في البلد". هنا التفت أحمد، طالب في الصف الأول الإعدادي، إلى أبيه، وقال: "أخبرنا مدرس اللغة العربية الكلام نفسه تقريباً، ثم وصف لنا شعوره عندما ذهب لكي يصوت في انتخابات نقابة المعلمين، شعرت أن لنا آباء وأمهات، لنا وطن، شعرت أنني حيّ".
بلغة الفلاحين "يا فرحة ما تمت أخدها الغراب وطار"، غَبَّر العسكر عبير الحرية، مزقوا عباءة الكرامة ودنسوها، جاءت الدبابة لكي تُعيد الشعب إلى حظائر الطاعة من جديد.
نزلت الدبابة في يوليو/ تموز 2013 إلى الشارع المصري، ومن أمامها "الهتيفة" يمهدون لها الطريق، يهتفون ويطبلون ويرقصون، أما الثوار الأحرار فقد استعصى أمرهم على "الهتيفة". وهنا، يأتي دور الدبابة لتسحقهم.
بعد أربع سنواتٍ، فاحت فيها رائحة الدماء والفقر والخراب، أربع سنوات قضاها إمام منكباً على عمله، على لقمة عيشه، عاد يلهث وراء لقمة العيش، كما كان قبل يناير/ كانون الثاني 2011، يعمل طوال اليوم ليعود إلى بيته بعد العشاء جثة هامدة يأكل وينام.
في هذه الفترة كثيراً ما تمثل روح أبيه واستعاد الأيام الخوالي، وكيف أنه ورث عن أبيه كل شيء تقريباً، فتملكه الذعر من أن يصبح ولده نسخة مكرّرة منه. أربع سنوات يحلم بأبيه في المنام، أربع سنوات يرى الموت في ضوء النهار، وتحت ظلمة الليل، مات إمام بعد أربع سنوات أحس فيها بالعجز حِيال ما يحدث حوله.
موسى باكثير
موسى باكثير
سليمان موسى باكثير
خريج كلية العلوم/ قسم بيولوجي، يعمل في التحاليل الطبية، ويجد بعض العزاء في القراءة والكتابة.
سليمان موسى باكثير